الأحد السابع من إيليا والرابع من الصليب
مَن تُراهُ الأَكبَرَ في مَلكوتِ السَّمَوات؟ (متى 18: 1- 11)
تقدّم الرُسل من ربّنا يسوع وسألوهُ: مَن تُراهُ الأَكبَرَ في مَلكوتِ السَّمَوات؟ ففيهم (مثلما هو فينا جميعاً) طموحٌ ورغبةٌ في تعظيم الذات وتأمين أمكنة متميّزة لهم وأرادوا التعبير عن رغبتهم صريحاً: "مَن تُراهُ الأَكبَرَ في مَلكوتِ السَّمَوات؟
ولأنها ساعة كشفٍ (وحي): "في تلِك الساعة"، جاء جواب ربّنا يسوع ليقلِب كل توقعات الرُسل، فدعا طفلاً وأقامهُ في وسطهم، وأشار صريحاً إلى أن هذا المُهَمَش والذي لا يمتلِك حقوقاً ولا إسهاماً يُذكَر في الحياة، ولا يعُطيه المجتمع التقدير والإحترام، هو الأعظم. شاءَ أن يُعلِم تلاميذه كيف ينبغي لهم أن يكونوا تلاميذه بحقٍ من خلال النظر إلى مّن هو خارج حلقّة التلاميذ، فعلامات الملكوت موجودة من حولنا، ولكننا منشغولون عنها ولا نُبصر حقيقتها بسبب تعلّقاتنا الحياتية. لكننا نسأل: ما الذي يُميّز الطفل حتّى يختاره ربنا يسوع ويُشير إليه: انه الأكبر؟ كيف لم يختر واحداً من التلاميذ الذين رافقوهُ وتتلمذوا له؟
ما يُميّز الطفل هو تحرره من الأمور التي تربط حياة الكبار عادة، فهو قادر على التخلي عن ما يملكهُ من أجل مشروع حياتي جديد. كما يتّصف الطفل بالتواضع فيحسبُ الآخرين أعظم منه ويُبين ذلك من خلال موقف الإتكالية عليهم. لا يضع نفسه في "المركز"، لأنه يعرِف أن هناك حقائق حياتية لا يُدركها بعدُ وهو بحاجةٍ إلى نور الآخرين ومساعدتهم. والأهم من ذلك هو موقف الطاعة الذي أبداه الطفل إزاء دعوة ربّنا يسوع له: "فدَعا طِفلاً فَأَقامَه بَينَهم"، فلا إعتراض يُذكّر من قبل الطفل. ففيما كان الرُسل منشغلين بحجز أمكنتهم في الملكوت، وبكل ما يُحيط بهذا الإنشغال من مشاعر السخط والطمع والحسد والغيرة والغضب، والتي طلبَ الرسول بولس من كنيسة قولسي التخلي عنها: "أَميتوا إِذًا أَعضاءَكمُ الَّتي في الأَرض بما فيها مِن زِنى وفَحْشاءَ وهَوىً وشَهوةٍ فاسِدَةٍ وطَمَعٍ وهو عِبادَةُ الأَوْثان، فإِنَّ تِلكَ الأَشياءَ أَسْبابٌ لِغَضَبِ الله.... أَمَّا الآن فأَلْقُوا عَنكم أَنتُم أَيضًا كُلَّ ما فيه غَضَبٌ وسُخْطٌ وخُبْثٌ وشَتيمة. لا تَنطِقوا بِقَبيح الكَلام ولا يَكذِبْ بَعضُكم بَعضًا، فَقَد خَلَعتُمُ الإِنسانَ القَديم وخَلَعتُم معَه أَعمالَه. ولَبِستُمُ الإِنسانَ الجَديد، ذاك الَّذي يُجَدَّدُ على صُورةِ خالِقِه لِيَصِلَ إِلى المَعرِفَة" (قولسي 3: 5-10).
هذه كلّها سببٌ للكثير من العثرات في حياة الكنيسة وتؤدي إلى ضياع العديد من أبنائها. فكل مّن هو مهتمٌ بالحصول على الأمكنة المتميزة: مَن تُراهُ الأَكبَرَ في مَلكوتِ السَّمَوات؟ لن يكون بمقدوره الاستجابة مُباشرةً لنداء ربّنا يسوع: "إتبعني"، فهناك الكثير من الطموحات والمشاعر تمنعه من القيام بذلِك. يأتي هذا الطفل وبطاعة كاملة وصمتٍ من دون إثارة الكثير من الضجيج، ليكون إنموذجاً أمام التلاميذ، لأنه إستجابَ لنداء ربّنا يسوع، فوقف في الوسط مُعبراً عن إستسلام تام إلى ارادة ربّنا يسوع ليرسلهُ إلى حيثما يُريد؛ في الوسط، وهذا هو الموقف الذي ميّزَ هذا الطفل عن الجميع، هو مُستعد ليذهب حيثما يُريد ربنا يسوع. كلمةُ ربّنا يسوع: "تعال" كانت حاسمة في حياة هذا الطفل، فلم يتسائل أو يعترِض أو يتأخر في الإستجابة، بل سلّم حياتهُ كلياً بين يدي ربّنا يسوع، والذي لم يمدّح الطفل كونهُ صغيراً أو جاهلاً، بل قُدرتهُ على الإستجابة بطاعة تامّة.
لذا، جاءت الدعوة صريحة: "إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات"، وهي عملية تتطلّب الكثير من الجهدِ الشخصي في التخلّي عن المواقف الشخصية التي إعتدنا عليها والأوهام التي تعلّقنا بها. ربنا يُّذكّر التلاميذ بحقيقة أنهم مدعوون ليتبعوه، وهذا لم يكن باختيارهم الشخصي، بل بنداء وجههُ هو إليهم، واستجابوا له. فالمبادرة هي من الله الآب، لأنه محبّة: "وما تَقومُ عَلَيه المَحَبَّة هو أَنَّه لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا" ... أَمَّا نَحنُ فإِنَّنا نُحِبّ لأَنَّه أَحَبَّنا قَبلَ أَن نُحِبَّه (1 يو 4: 10، 19). على التلاميذ إذن أن يكونوا مستعدين للتعامل طوعاً مع متطلّبات الدعوة، فيذهبوا حيثما يُريدهم ربّنا يسوع أن يكونوا، تماما مثل الطفل الذي دُعي ولبّى الدعوة من دون إبطاء أو إعتراضاتٍ، لأنه عرّف أن الداعي هو شخصُ يستحقُّ طاعة مُطلقة. هذا لن يكون إن لم نكن متأصلين بيسوع المسيح: "فكما تَقَبَّلتُمُ الرَّبَّ يسوعَ المسيح، سيروا فيه، مُتَأَصِّلينَ فيه ومُتَأَسِّسينَ علَيه" (قولسي2: 6-7).
فالأكبر في ملكوت السموات هو المؤمن المُستعد للسير خلف ربّنا يسوع حاملاً الصليب حتّى الجلجلة: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متّى 16: 24). الرُسل كانوا منشغلين بالتراتبية، مَن سيكون الأول ومَن سيكون الثاني، وجاء الكشف مؤكداً: "إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات"، فالقضية خطيرة، فمِن الممكن أن الرُسل لن يدخلوا الملكوت، فالأمر يتطلّب بأن يسمح التلميذ لربّنا يسوع بأن يقود حياتهُ، لا أن تكون الطموحات والرغبات الشخصية دافعاً للحياة. أن يكون للتلميذ الإستعداد لأن يُحبّ الله من كل قلبه وكل نفسه وكل ذهنهِ (مـّى 22: 37)، وبذلك يُعبّر عن إيمان مُطلق بالله، وفرحهُ ليس في منجزاتٍ شخصية، بل في نعمةِ الله التي تحتضن حياتهُ، فيجد فيها فرحهُ: "تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال" (لو 1: 47-48). فالمتواضع الذي يقف أمام الله معترفاً بصغرهِ وفقرهِ، يُعبّر في الوقت ذاتهِ عن استعداد ليرفعه الله ويُغنيهِ وينعِم عليه بالمكانة الفضلى: "فدَعا طِفلاً فَأَقامَه بَينَهم"، ليكون محطّ اهتمام الناس، وهذا كلّه نعمةُ من الله المُحِب. فالتواضع والفقر عمودان أساسيان لبوابة ملكوت الله.