الأحد الخامس من الرُسل
رسالة الكنيسة: أن تُبشّر بالعناية الإلهية (لوقا لو: 12: 13- 34)
طلبَ الأسكندر المقدوني الذي سيطرَ بجيوشهِ على أراضٍ شاسعةٍ من العالم، أن يحملَ أطباؤه نعشَهُ، وأن تُنثرَ أمامِ نعشهِ قطعٌ ذهبيةٌ، وأن تبقى يداه مفتوحتينِ خارج التابوتِ.
فسألوه وما معنى ذلك؟
فقال: ليعرفَ الناس انه مهما حاولنا تجنّبَ الموت، فهو آتٍ لا محالةَ، ولن يُوقفهُ أشهر الأطباءِ، وأن ما جمعناه من مالٍ هباءٌ منثورٌ، وإننا ندخل الحياة ونخرجُ منها بيدين فارغتين.
واجهت الكنيسة خطيئة "الطمع والقلق على الغد منذ بدءِ مسيرتها، فوعظت بمسيرة تُعاكِس مسيرة العالم الباحِث عن المزيد والمتخوّف من المُستقبل، فسعت لتُحقق رؤية "الملكوت" الذي بشّر بهِ ربّنا يسوع المسيح وعاشت حياة الشِركة في كل تفاصيلها لتكون إنموذج إيمان وحياة: "وكانَ جَميعُ الَّذينَ آمنوا جماعةً واحِدة، يَجعَلونَ كُلَّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم، يَبيعونَ أَملاكَهم وأَمْوالَهم، ويَتَقاسَمونَ الثَّمَنَ على قَدْرِ احتِياجِ كُلٍّ مِنْهُم" (أع 2: 44- 45). فلَم يَكُنْ فيهمِ مُحتاج، لأَنَّ كُلَّ مَن يَملِكُ الحُقولَ أَوِ البُيوتَ كانَ يَبيعُها، ويأتي بِثَمنِ المَبيع، فيُلْقيهِ عِندَ أَقدامِ الرُّسُل. فيُعْطى كُلٌّ مِنهم على قَدْرِ احتِياجِه. (أع 4: 34- 35).
الطمع والقلق يُبعدنا عن الإيمان: "إِنَّ التَّقْوى كَسْبٌ عَظيمٌ إِذا اقتَرَنَت بِالقَناعة، فإِنَّنا لم نَأتِ العالَمِ وَمَعَنا شَيء، ولا نَستَطيعُ أَن نَخرُجَ مِنه ومَعَنا شَيء. فإِذا كانَ عِندَنا قُوتٌ كُسوَة فعَلَينا أَن نَقنَعَ بِهِما. أَمَّا الَّذينَ يَطلُبونَ الغِنى فإِنَّهم يَقَعونَ في التَّجرِبَةِ والفَخِّ وفي كَثيرٍ مِنَ الشَّهَواتِ العَمِيَّةِ المَشؤُومَةِ الَّتي تُغرِقُ النَّاسَ في الدَّمارِ والهَلاك، لأَنَّ حُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ، وقَدِ استَسلَمَ إِلَيه بَعضُ النَّاس فضَلُّوا عنِ الإِيمان وأَصابوا أَنفُسَهم بِأَوْجاعٍ كَثيرة" (1 طيمثاوس 6: 6- 10).وكان لدينا برنابا إنموذجاً للسخاء المُحِب (أع 4: 36- 37)، وحننيا وسفيرة مثالاً للتقوى الكاذبة التي ينقصها الإيمان الحقيقي بعناية الله الأبوية (أ 5: 1- 11).
تُزاحِمُ الناس بعضها بعضاً طمعاً بالثروات، ويتقاتلون فيما بينهم حُباً بالمزيد منها، فعلّمَ ربّنا يسوع تلاميذه (الكنيسة) أن الحياة هي أعظمُ هبةٍ من الله للإنسان: "فقالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ"، في إشارة إلى أن الله هو الذي وهبَ وهو الذي يستردُ من الإنسان ما أودعهُ لديه. وأشارَ ربّنا بذلِك إلى ضرورة الإيمان بالعناية الإلهية والإستسلام إلى تدبيره والعيش متحررين من الخوف من "الغد"، واثقين أن الله، لأنه أبٌ مُحِب لن يتخلّى عنّا، وسيهبُ لنا ما نحن بحاجةٍ إليه.
الإيمان بالعناية الإلهية ليس دعوة إلى الكسل، فعلى العصافير أن تواصِل الطيران والبحث لتأكل ما يهبهُ الله لها، وهي تُمجّد الله الخالق بذلك، كذلك على الإنسان، أن يترَك لله المجال ليكون إلهاً فيواصل الإنسان العمل فرحاً لا قلقاً. فالقلق على الغد يجعل الإنسان لا يستمتع باللحظة الحاضرة التي يهبُها الله له، فيزداد وتتفاقم مخاوفه. وهذا مايبعده عن العائلة والأصدقاء ويحرمهُ متعة التواصل معهم. الإيمان بالعناية الإلهية لا يعني التقاعس عن العمل تحدٍ لخطيئة الطمع والقلق وفضحِ أُسسها: فهي حالة عدم إيمان بالله الآب. فإذا كُنا نؤمِن بأن الله هو الآب؛ ونُصلي إليه: "أبانا"، فعلينا أن نُعطيه المجال ليكون: "أبانا" من خلال فعل الإيمان به واثقين بأنه لن يتركنا جياعاً أو عطاشاً أو عُراة، بل سيهبُ لنا ما نحتاجه في أوانهِ. ليكون فعل الإيمان دعوة للتحرر من هذا القلق والخلاص من خطيئة الطمع. العمل بحدّ ذاته ليس خطيئة، بل القلق الذي يزرع في قلوبنا الخوف من المُستقبل، ويُطفئ فينا شعلة الإيمان التي يجب أن تُنير العالم: يكفي الله هو للإنسان.
الرغبة في الحصول على المزيد من المال، (الطمع)، والخوف من الغد تعني عدم الإيمان بأبوّة الله وعنايتهِ، فنظن أن الخيرات المادّية تولينا الراحة والآمان، وهذا شكلٌ من أشكال الاعتقاد الباطل، مثلما ظنَّ الغني الغبي في تفكيره الأناني في مواقفهِ. فعوض أن يكون غنياً بالله من خلال مُقاسمة الخيرات مع الفقراء والمحتاجين، راحَ يُفكِر في توسيع الأهراء معتقداً أنه بذلِك يستعد للغد ليواصِل التنعُم، متناسياً أن الله الذي وهبَ الحياة، سيهبُ معها قوتها لأنه يعرِف حاجات الإنسان، إن إستطاع الإنسان أن يكون حُراً، فيتوقّف عن النظر إلى ذاته والبحث عن إحتياجاتهِ، ويبدأ النظرِ إلى الحياة من حولهِ ليرى عجائب الله، ليكون سخياً في العطاء.
"بلِ اطلُبوا مَلَكوتَه تُزادوا ذلك" ... "بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها" ، ربّنا يسوع يُرشدنا من أين تكون البداية؛ الإهتمام بنشرِ ملكوت الله، ملكوت العدالة والرحمة والتضامن مع الآخرين. ملكوت نختبرهُ من خلال مواقف مُحبّة، فنٌشارِك الآخرين ما وُهِبَ لنا، لكي لا يكون بيننا مُحتاج أو فقير أو معوّز. وبالتالي. التغلّب على مشاعر الحسد والطمع والقلق على المُستقبل التي يدعو إليها ملكوت الإنسان، ملكوت الطمع والجشع والقلق، التي تدفعنا إلى ارتكاب الخطايا: الكذب والسرقة وقتل الآخر من أجل تأمين احتياجات الجسد.
لذلك، يواصل تعليمه عندما قال: "... "بيعوا أَموالَكم وتَصَدَّقوا بِها"، فلا يكفي أن يكون لنا سخاءٌ في العطاء، بل أن نكون متحررين من رغبّة التملّك، إذ يُمكن للشخص أن يكون سخياً في العطاء ولكنه عبدٌ لثرواتهِ، وهذا ضلال وعوزٌ في الإيمان. ربنا يعرف أننا نبحث دوما عن المزيد، مع أننا لسنا بحاجةٍ إليه، لذا، يُريدنا أن نقف أمامه صادقين في صلاتنا: أبانا، ونحقق في حياتنا هذه الصلاة، من خلال الإيمان بعنايتهِ الأبوية، والتوقف عن معاداة الآخرين بسبب "شهوة مقتنيات القريب".