الاحد السادس من الرُسل
رسالة الكنيسة: الكرازة بالتوبة (لوقا لو: 12: 57- 13: 17)
"أَقولُ لكم:لا ولكِن إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ". على الكنيسة أن تكرِز بضرورة التوّبة، وتواصِل العمل الذي شرع به ربّنا يسوع: "تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة" (مر 1: 15)، والمطلب الأول الذي أوصى به بطرس الناس الذين سمعِوا عظتهُ الأولى كان: "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (أع 2: 37). الفرصة مؤاتية الآن للتوبة، لتغيير الحياة والخروج من ظلمة الخطيئة إلى نور الله. والله، لأنه محبّة، قرر أن يُعطي الإنسانَ فرصةً أخرى؛ سنة إضافية، ليتوبَ إليه. فمع ربّنا يسوع بدأَ زمن التوبة الذي يجب أن لا يُؤَجّل إلى الغد. اليوم نحن مُطالبونَ بالتوبة، وبأن تكون لحياتنا ثمار صالحة. إلهنا وملكنا قرر أن يهبَ لنا فرصة جديدة لنتصاّلح معه ومع القريب، والمُصالحة تتطلّب ثماراً، فلا يكفي أن تكون أوراق الشجرة خضراء، بل يجب أن تكون الشجرة مثمرة، فتأتي توبتنا صادقة.
التوبة تعني تغيير الفكر والعقلية والشعور والإرادة والعمل، بل كل كيان الإنسان، إعترافاً منه بأن حياته السابقة كانت خاطئة، وهو مُستعد ليقبلَ الحياة الجديدة التي تأتيهِ من الله، فيعيش هويّتهُ الحقيقية "إبنُ الله"، ويحمل حُبَّ الله إلى عالمهِ. هو لا يعني أنه بالخطيئة عصى وصايا الله وتجاوز القوانين، بل رفضهُ أن يكون إبناً في بيتِ الآب. شعوره بأنه أهانَ محبّة الله: "يا أَبَتِ، إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ" (لو 15: 21). من هنا نفهَم لماذا يشعر القديس عادة بأنه أكثر الناس خطأة، بعد أن اكتشف محبّة الله له بيسوع المسيح، وعرِف كم أنه بعيد عن هذا الحُب، وكأنه غُصنٍ إنقطعَ عن الشجرة التي كانت تمدّهُ بالحياة.
التوبة ليست إذاً التوقف عن الخطيئة، بل قبول البُشرى السارة، سُكنى الله بيننا بيسوع المسيح. أن لا تُخطئ لا يعني أنّك إنسانٌ صالحٌ وأنّك تسير وفقَ إرادة الله. التوبة تعني أن تكون "مسيحاً آخر" من خلال شهادة حياتِك. فالمسيحية ليست عقيدة أخلاقية، بل دعوة لمُشاركة الله حياتَه، لذا، يُقدِم لنا ذاتهُ في الافخارستيا فنحيّا به. نحن مدعوون إذاً إلى التوبة، والتوبة فعلُ إيمان، أن نقول نعم للبُشرى السارة التي يوجهها الله إلينا بيسوع المسيح: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله" (يو 1: 12)، وأن نبدأ بحياة مسيحية تبرهن عن مصداقيتها بثمار التوبة.
إلهنا قرر بمحبتهِ أن يهبَ لنا عطية الروح القدس لنكون أبناء الله الصالح الذي أحبّنا أولاً، ومحبتهُ قرّبتّنا منه، وأعادت إلينا الحياة التي كانت قد إنقطعت عنّا بفعل إرادتنا: "نحن مَن قرر الابتعاد عنه والهرب من الآب" (الابن الضآل). محبّة الله وغفرانهِ جعلت التوبة ممكنة ليعيش الإنسان حياة الشُكر والآمتنان لله الذي أحبّه وقبلهُ إبناً محبوباً. فيتحوّل، وبفضلِ النعمة، من إنسان يبحث عن ذاتهِ ليُخدم، إلى إنسان يبحث عن الآخرين ليخدمهم تلبيةً لنداء ربّنا يسوع: "اِذْهَبْ فاعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك" (لو 10: 37)، فيبدأ بمحبّة الله من كل القلب وكل النفس وكل القوّة وكل الذهن، ليصل إلى القريب (لو 10: 27)، من دون أن تتجزأ هذه المحبّة، بل تكون صادقة وصافية نقيّة.
بعضنا يعتقِد أن أهمّ شيء في حياة الإيمان هو أن يكون الإنسان صالحاً، لا يُخطئ ويعمل من أجل عالم إنساني أفضل أكثر عدالة وإنصافاً، وكأن محبّة الله تُترجَم من خلال محبّة القريب. ولكنّ المسيحية لا تبدأ منّا، بل من عند الله: "وما تَقومُ عَلَيه المَحَبَّة هو أَنَّه لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا
فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا" (1 يو 4: 10)، لتكون العلاقة معه، حياةٌ مع الذي أحبنّا أولاً ويدعونا لأن نُشاركهُ حياته. المسيحية ليست "قائمة توصيات وأوامر أخلاقية"، بل هي حياة مع الله: "إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا. لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ! وهذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله. فإِذا كُنَّا أَبْناءَ الله فنَحنُ وَرَثة: وَرَثَةُ اللهِ وشُرَكاءُ المسيحِ في المِيراث، لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (روم 8: 14- 17). هذه البنوّة تهبُ لنا الشجاعة لنواصِل المحبّة من دون أن تتأثّر بموقف الآخر منّا، تماما مثل الذي يواصِل محبتهِ، بل يحوّل له الخّد الآخر عندما يضربه على خدّ اليمين (متّى 5: 39).
التوبّة إذن هي فعل إيمان، توقفٌ عن الخطيئة، وبدءُ حياة الشِركة مع الله. فلا يُمكن لنا أن نواصِل الحياة متوهيمنَ أننا أفضل من جميع الناس بسبب تقوانا مثلما صلّى الفريسي (لو 18: 10- 14). أو السعي لأن نجعل من تقوانا فرصة لنيل مديح الناس وإكرامهم، فنستغل حياة الإيمان التي تُريد أن تأخذنا إلى خدمة الله والقريب، أن تكون في خدمتنا. التوبة تعني أن نعيش بساطة الأطفال الذين يقفون أمام والديهم واثقين من محبتهم ومُستسلمين كلياً إليهم مثلما أنشدت أمنّا مريم (لو 1 :46 – 52). التوبة تعني عدم البحث عن السلطة والغنى إلهاً يُعبَد، والابتعاد عن القلق بشأنِ الغد: "لا يُهِمَّكُم لِلعَيشِ ما تَأكُلون، ولا لِلجَسدِ ما تَلبَسون، لِأَنَّ الحَياةَ أَعظَمُ مِنَ الطَّعام، والجَسَدَ أَعظَمُ مِنَ اللِّباس" (لو 12: - 22- 23)، وطلب ملكوت الله (12: 31). فالتوبة هي تخلٍ يومي عن "ملكوت الإنسان"، والسير بأمانة نحو "ملكوت الله". فليس الأنا هو المهم، بل الله هو الأهم، لأننا مجربون يومياً بنداءات تجذبنا بعيداً عن الله.
اليوم، يُبشرنا ربّنا يسوع بأن لنا سنة أخرى، فلنتأمل كيف سنحيا هذه السنة؟ ما الذي سنُغيّره في حياتنا؟ لمَن سنعتذِر؟ ومَن سنسامِح وسنغفر له؟ إلى أي إنسان ستقدم محبّة مُضاعفة نعويضاً عن إهمالِك إياه؟