الأحد الثاني من الرُسل
رسالة الكنيسة: الرحمة مقابل النميمة (لوقا 7: 31- 50)
إنطلقت الكنيسة إلى العالم حاملة رسالة المسيح بدافعٍ من الروح القُدس: "ولكن المؤيد، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم جميع الأشياء ويذكركم جميع ما قلته لكم". وعلى الكنيسة أن تُقدِم للعالم ما علّمهُ ربّنا يسوع وعملهُ، فلن تأتي بتعليم جديد. وتعليمهُ الأول والأهم هو: "الله محبّة. وهذهِ المحبة تقبلُ الجميع لاسيما الخاطئين"، فمَن يؤمِن بهذه المحبّة ويتوبُ ينالُ نعمةَ الغفران، ولن يُستثنّى أحدٌ من هذه النعمة. هذه المحبّة تستبقُ كل مبادرة يقوم بها الإنسان، بل تُطالِبُ الإنسان بإستجابة مماثلة، فتضحى محبّةُ الإنسان جواباً سخياً على محبّةِ الله التي بادَرت وانتشلتهُ من ضياعهِ ووهبت له حياة جديدة. هذا ما أكدَّ عليه ربّنا يسوع في المثل الذي قدّمهُ لسمعان الفريسي الذي فَهِمَ الدَرسَ وأجابَ بالصواب لكنه، بسبب قساوة قلبهِ، لم يتمكّن من تلبية متطلبات هذا الدرس شأن ما فعلتهُ المرأة التي اقتحمَت المجلس وسجدت عند قدمي يسوع. هذه المرأة الخاطئة أحبّت كثيراً، وعبرت عن محبّتها العظيمة بسخاءٍ. هي مؤمنةٌ بأن الله أحبّها بيسوع المسيح وإستقبلها على نحوٍ لم تتوقّعهُ، بخلاف سمعان الفريسي الذي كان يودّ طردها من المجلس.
زار الله شعبهُ زيارة خاصّة تحمل الكثير من الحب والمودّة. زاره ليتقاسم معه الغذاء على نفس المائدة. فحضور ربّنا يسوع في بيت سمعان الفريسي يجب أن يُفهَم مثل زيارة الله حاملاً الخلاص والفرح للبيت، حتّى لو كان هناك عوزٌ في الضيافة من قبل الإنسان، مثلما قال للذي دعاه للمأدبة. لم تنتقد المرأة الخاطئة سمعان الفريسي بسبب نقص الضيافة هذا، بل راحت تُكملُ النقص بتواضعٍ وجعلت كلّ هيبتها (شعرها) ومالها تحت أقدامِ المُخلِص، وسمحَت لربّنا بأن يتحدّث عنها أمام الحاضرين، فجعلت من هذا اللقاء لقاء صلاة صادِق. هي لا تحتاج إلى كلمات تقولَها لربّنا عن نفسها، بل تؤمِن بأنه يعرفها جيداّ، وهي مؤمنة بمحبتهِ لها. فقررت أن تبدأ مسيرة التوبة من عند قدميهِ، وتكون شاهدة لغفران الله لها الذي قبلتهُ مجاناً من النبي- المسيح يسوع. لقد عرِفت حقاً إلى من تلتجئ، فلم تذهب عند الفريسي لأنها كانت تعرِف أنه سيطردها لكونها خاطئة- نجسة، بل إرتمت عند قدمي ربّنا يسوع مؤمنةً بمحبتهِ التي تتجاوز عن خطاياها. هي تعرِف أن قلب الإنسان أقسى من أن يقبلها، وكانت تُدرِك خطورة المسيرة للقاء ربّنا يسوع، ولكنّها لم تُبالِ بشيء سوى بلقائهِ.
محبّة الله أعظمُ من خطايا الإنسان. بهذا الإيمان والرجاء دخلَت هذه المرأة بيت سمعان الفريسي غير مُباليةٍ بإنتقادِ الناس ورفضهِم لها، ووصلت حيث يجلُس ربّنا يسوع وسجدتَ تغسل قدميه بدموعها وتمسحهما بشعرها. بخطايا فقدت كرامتها، وبحضورها عند قدمي ربّنا إستعادَت كرامة "إبنة الله الآب". وأرادَ ربّنا يسوع أن يجعل هذا اللقاء فرصة فيها يدعو سمعان الفريسي إلى الإنفتاح على "الخلاص" الذي حلَّ في بيتهِ. ربّنا يسوع أشارَ إلى سمعان الفريسي أنه ليس أكثر نزاهةٍ من المرأة، فهو خاطئٌ أيضاً، وعليه أن يترُك لله مهمّة دينونة الناس، ويقبَل نعمةَ الغفران المجّاني الذي صارَ للجميع بيسوع المسيح. وهكذا، تأتي توبة الإنسان لا إدعاءً بإستحقاقٍ، بل جواباً من الإنسان على نعمة الله التي بادَرت وغفرت للجميع خطاياهم قليلة كانت (خمسونَ ديناراً) أو كثيرة (خمسمائة دينار).
وهناك المزيد في هذا اللقاء. ربّنا يسوع تجاوزَ لسمعان الفريسي عن نقص الضيافة وأشارَ إلى خطيئة النميمةِ التي اقترفها الفريسي، وذلك ليس عن طريق التوبيخ بل في "شكل المحبّة التي ينتظرها الله منهُ". لقد شاهَد سمعان الفريسي عظيمَ محبّة المرأة وسخاءَ القلبِ الذي لم يكن هو مُستعداً لأن يُقدمهُ للضيّف المُميّز: المعلم يسوع الناصري. وعوَضَ أن يتوبَ ويعوّض عن ذلك، صبَّ جام غضبهِ على المرأة فراحَ يُفكِر في خطاياها لا في محبتها، فعبّرَ إلى الوثنية لأنه تنكّر لوجود الله وجعل نفسه الديّان الذي يُحاكِم الناس ويحتقرهم، وأرادَ بتفكيره هذا أن يمنعَ ربّنا يسوع من استقبال المرأة لأنها خاطئة ونجسة، أرادَ أن يتحكّم بمواقف ربّنا يسوع وقراراتهِ. ولأنه جبانٌ مثل كل النمامين عادة، لم يكن له الشجاعة ليُفصِح علناً عن أفكارهِ، وفي حالةِ سمعان الفريسي فهو يُناقِض نفسه، فهو من جهةٍ يُقيمُ مأدبة في بيتهِ لأصدقائه، ومن جهةٍ أخرى يُقدِم نفسه "نماماً" يُفكِر بالسوء في الآخرين ويسعى إلى الحطّ من كرامتهم، ويقول سفر الأمثال: "إِنْسانُ الخَدائع يُثيرُ الخِصام والنَّمَّامُ يُفَرِّقُ الأَصحاب" (16: 28).فالنمام يدمّر العلاقات الإنسانية ويُنهيها لأنه يزرع الشكوك بين الناس، ويُصبح هو نفسه شخصاً غير موثوقٍ به، فالجميع يتساءَلون: "ما الذي سيقوله عنّا في غيابنا". فعلينا أن نُصلي يومياً مع المزمزّ: "أَقِمْ يا رَبِّ حارِسًا على فَمي وراقِبْ بابَ شَفَتَيَّ"، لئلا تنطق شفاهنا بالسوء: "لا تَخرُجَنَّ مِن أَفْواهِكم أَيَّةُ كَلِمَةٍ خَبيثَة، بل كُلُّ كَلِمةٍ طيِّبةٍ تُفيدُ البُنْيانَ عِندَ الحاجة وتَهَبُ نِعمَةً للسَّامِعين" (أفسس 4: 29).
لقاء ربّنا يسوع اليوم بسمعان الفريسي وبالمرأة الخاطئة دعوةٌ لنا إلى التوبة، وهي رسالةُ الكنيسة التي تحملها للعالم أجمع: "الله الآب ينتظركُم ومحبتهُ تتجاوز لكم خطاياكم، ورحمتهُ تستقبلكم بفرحٍ، فتوبوا إليه".