خميس الفصح
أن نكون الفصح الذي نحتفل به: (مـّى 26: 1- 5، 14- 30)
"إصنعوا هذا لذكري" هذا هو طلب ربنا يسوع المسيح اليوم، وهو لم يطلبُ منّا أن نتذكّر أو نعلّم، بل قال: "اصنعوا"، أي أن نكون مُشاركين فاعلين وليس مُشاهدين، أن نصنع ما صنعهُ ربنا يسوع نفسه. فالمسيحي ليس مسيحياً بالكلام بل بالفعل: "لَيسَ مَن يَقولُ لي "يا ربّ، يا ربّ" يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات"، هو نفسه جاءَ ليصنعَ إرادة الله الآب الذي أرسلهُ: "طعامي أن أعمل مشيئة مَن أرسلني". المسيحيون الحقيقيون هم الصانعون والفاعلون، وليسوا المُشاهدين المُتذكرينَ. لذا، فنحن اليومَ مدعوون ليس للمُشاهدة بل للمُشاركة الحقيقية.
ولكن ما الذي صنعهُ ربّنا يسوع اليوم؟ وهل يُمكننا أن نصنعَ ما صنعهُ هو؟
أربعة أفعال تختصر ما صنعهُ ربّنا يسوع: "أخذ، بارَك، كسرَ، أعطى"، وهي تُساعدنا أيضاً لنعرِف كيف لنا أن نصنعَ ما صنعهُ ربّنا يسوع أيضاً.
فلقد أخذ ربّنا يسوع اليوم خبزاً من أرضنا وباركهُ وكسره وأعطاهُ. لم يكن أولَ شيءٍ يأخذه من أرضنا، فلقدَ أخذ منها جسدهُ: "والكلمة صارَ جسداً"، فما يأخذه من خبزٍ اليوم هو تواصلٌ لما بدأه قبل 33 سنة من حادثة العشاء الأخير، عندما أخذ من جسد مريم أمنا جسدهُ وولدَ في بيتَ لحمَ، بيت الخُبز. إلهنا أخذ منّا جسدنا ليُعلّمنا كيف تُعاش الإنسانية لتصل بنا إلى الشِركة مع الله. ففعل اليوم هو تحقيق لما بدأه في التجسّد.
وإذ يأخذ الربّ جسدنا، فذلك ليس ليُبقيهُ له مُلكاً بل يأخذه لنكون نحن جسدهُ. فيأخذ الخبز اليوم بيديه، ويأخذنا ويحملنا إلى الله الآب مُبارَكينَ، مثلما يقبل منّا في بدءِ كل قُداس عطايا الخُبزَ والخمرَ، ليُباركها ويُقدسها ويُعيدها الينا وقد تحولّت إلى ذاته. فهو يُبارِك كل ما يأخذه، وهكذا أخذ اليومَ الخُبزَ وبارك، باركَ الله مٌعترفاً بصلاحِ الله الذي باركنا بمحبتهِ، على الرغم من الشك والخيانة والخطيئة التي فينا. هذه البركة هي التي تجعلنا أبناء الله في شِركةٍ معه، فلن تكون أعمالنا شفيعةً لنا في الخلاص، بل محبة الله التي اخذتنا وباركتنا، لنكون في العالم بركةً. وهكذا نتعلّم أن نُبارِك كلَّ ما تُمسكهُ أيدينا، فلا نتعامل معه بأنانيةٍ بل بمحبةٍ فنعترِف بتواضع أنه عطيةُ الله، وأن الآخرين ليسوا أعداءَنا يُنافسوننا على عطايا الله، بل همُ مُبارَكون معنا من أجلنا، ونحن مُباركونَ من أجلهم. كم نحن بحاجةٍ اليوم إلى هذه الأياي التي تُقدس العالم. فكلما إستغل الإنسان العالم لمصالحهِ إشتعلت حروبٌ ونزاعاتٌ بين البشر.
ففي إفخارستيا ربّنا يسوع نحن مُباركونَ وهذه البركة تُغيّر حياتنا كلّها، فتجعلنا ليس خُبزَ الله المُبارَك فحسب، بل المُكسور والمُتقاسم: "أخذ وباركَ وكسر وأعطى"، فما نفعُ الخُبزِ إن لم يكن خُبزأً مكسوراً مأكولاً؟ الخبُز جميل المنظر وشهيٌّ للعيون، ولكنه لن يفيد شيئاً ما لم يُؤكل. فهو يبيس من دون فائدةٍ. أكلهُ هو الذي يجعلهُ نافعاً وإن كان من أن هذا الأكل سيُفقده جمالَ منظره ورائحتهُ الطيبّة. الخبُز صُنعَ ليكون مأكلاً، ليكونَ خُبزَ الحياة.
فنحن اليوم إذ نُعلِن إيماننا بهذا الخُبز والخمر قائلين: آمين، نؤمنُ ونعترِف، فإننا نقبلُ لا الخبزَ الذي على المذبح فحسب، بل نقبل أن نصيرَ الخُبزَ الذي يُعطي الحياة، فنجعلَ حضورَ المسيح حقيقياً في العالِم، فنُمجد الله في أجسادِنا، ونقبل في طاعة الإيمان أن نجعل من أجسادنا ذبيحة حيّة مقدسة مرضية عند الله. ربنا يعرِف أنه سيُعطي جسده لأناسٍ قد لا يكونونَ أُمناءٍ دوماً، ويعرف أن المُجرّب زرع الشك والخيانة في الكنيسة وفي كل منّا. ولكنه على الرغم من ذلك، أعطى جسدهُ لنتقاسمهُ ويجعل منّا جماعة تعرِف كيف تُبارك الآخرين، وتكسر جسدها من أجلهم جميعاً من دون ِتمييز.
يروي احد الكهنة أنه دُعي يوماً ليحتفل بالذبيحة الإلهية التي كانت تحضرها الأم تريزا، ففرِح جداً بهذه الدعوةِ، وإستعدّ لها ورتّب كل لحظاتها وبدء القُداس بكل فرحٍ وحماسٍ لأنه صارَ بقُربِ هذه الإنسانة العظيمة، الشاهدة الغيورة لمحبّة ربنا يسوع.
ولكن ما أدهشهُ كثيراً هو الفرح الذي كان على وجه الأم تريزا وهي تقبلُ القُربان من يدهِ، فضمّت يسوع إلى قلبها وأعلنت آمين عندما قال لها: جسد المسيح، وانسحبت من بين المُصلين تشكرُ هذه النعمة، ثم خرجت من المُصلّى واحتضنت راس مريض كان يحتضر، وكأنه راس يسوع حتّى مات بين أحضانها. لقد عاشت الـ"آمين" التي قالتها عندما تناولت القُربان، وصارتَ هي الافخارستيا التي احتفلت بها، لأنها سمحت لجسدِ ربّنا يسوع أن يحوّل جسدها إلى جسدهِ هو، إلى الحياة المُباركة في الخدمة المتواضعة.
فان "آمين" التي نُعلنها كلّما تناولنا جسد المسيح بحاجةٍ إلى شهادةِ حياة تجعلها "آمين" حقّا في واقع الحياة اليومية، مثلما فعل قديسو الكنيسة ان سلّموا حياتهم كليا الى المسيح فحوّلها إلى جسدهِ. لنسألهُ اليوم أن يأخذ منّا أجسادنا ويُقدسها لتكون القُربان الذي يُقدمه لله الآب وللعالم.