الأحد السادس من الصوم
"أنا باب الخراف ... أنا الراعي الصالح" (يوحنّا 9: 39- 10: 16)
تدعونا أمنّا الكنيسة اليوم إلى مرافقة ربّنا يسوع المسيح في دخوله إلى مدينة أورشليم ومواجهةِ الرفض والعذاب والصليب والموت، فأعلنَ ربّنا يسوع للجموع (ولنا أيضاً): أنه باب الحظيرة وهو الراعي الصالح، في إشارة واضحة إلى أنه هو الطريق إلى الحياة (الباب)، ولن يكون هناك طرقُ أخرى، فعلى هذا الباب وضعَ إلهنا علامة الخلاص، فدمُ الحمل صارَ عليه: "ويأخُذُونَ مِن دَمِه ويَجعَلوَنه على قائِمَتَيِ البابِ وعارِضَتِه على البُيوتِ الَّتي يأكُلوَنه فيها" (خر 12: 7). هو الحياة لأنه بذلَ ذاتهُ من أجل خرافهِ، فكلُّ مَن يُريد أن يكون عضواً في جماعة ربّنا يسوع عليه أن يدخل من خلالهِ إلى الحظيرة، أي أن يتبعهُ عن قُربٍ ويتّحدِ به: "دخول الباب". أن يُحبهُ محبة الابن لأبيه السماوي. لذلِك، سأل ربّنا يسوع سمعان بطرس أن يرعى الخراف ولكنّ عليه أولاً أن يُبرِهِنَ له أنه يُحبهُ، ويتبعهُ (يو 21: 15- 19)، أي أن يكون مُستعداً لبذِل الذات على مثال الراعي، ربّنا يسوع المسيح، فاتباعه يعني بالضرورة السير في الطريق الذي اختاره هو ليُتمِمَ مشيئة الآب السماوي.
"أنا بابُ الخراف"، فالباب يوفّر الأمان للخراف ويحميها من هجمات السُراق والحيوانات المُفترِسة، فيسمح لنا بأن تكون "جماعة" ما دامت متحدّة به، فهو ضمانةُ حياتها وبقائها. فمَن له نوايا صالحة سيدخُل من الباب إلى حظيرة الخراف، أما الذي يسعى وراء مصالحهِ ومتعتهِ الشخصية فيتسلل من موضعٍ آخر ليخطُف الخرافِ ويعبثَ بها. ربّنا يسوع أعلنَ أنه الطريق إلى الآب يمر من خلالهِ، فلن يكون بالإمكان اقتراح طريق آخر، ولا يُمكن تجنّب الطريق الذي اختاره الله الآب حتّى لو تطلّبَ ذلكَ الألم والصليب، وعندما يسعى أحدهم إلى منع ربّنا يسوع من السير في هذا الطريق، سيُعلمّه ربّنا أين هي مكانتهُ: "وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إِلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَةِ والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث. فَانفَرَدَ بِه بُطرُس وجَعلَ يُعاتِبُه فيَقول:"حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا!. فالتَفتَ وقالَ لِبُطرس:"إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان، فأَنتَ لي حَجَرُ عَثْرَة، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر" (متّى 16: 21- 23).
ربّنا يسوع المسيح إذاً هو بابُ الخراف، وهو راعيها الصالح. انه الراعي الذي له سُلطة على الخراف يأمرها فتطيعهُ وتسير وفقَ إرادتهِ، ولكنه يُمارِس سلطانهُ بمحبةٍ تظهر من خلال العناية بالخراف وتوفير الآمان والغذاء والماء لها: "أَنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً" (يو 6: 35). فلا خوفَ إذاً مع هذا الراعي الصالح، حتّى لو سرنا في طريق الألم والصليب: "إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظّلمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي. عَصاكَ وعُكَّازُكَ يُسَكِّنانِ رَوعي" (مز 23: 4). فمسيرة الإيمان متطلّبة ومُخيفةٌ أيضاً، لكننا مؤمنون أنه معنا، يتقدمّنا على الطريق، هو عيوننا التي ترى ما لا نراهُ بسبب مخاوفنا، وإن تعثرنا في المسيرة أو إبتعدنا عن القطيع، فنحن واثقون من أنه لن يتركنا، فصوتهُ وعصاه تُرشدنا إليه وسيبحث عنّا إن ضللنا في مسيرتنا، هو راعينا وحارسنا الأمين.
مسيرة الصوم تبقى صعبة لأنها تتطلّب منّا أن ننزعّ عنّا الإنسان القديم، إنسان الخوف الذي يبحث عن تأمينِ حياتهِ من خلال التسلّط أو التملّك أو البحث عن الاسم والمكانة والشهرة، فيكذب ويسرق ويخطُف ويُهلِك ويعبثَ، لأنه خائفٌ من أن يفقدَ حياتهُ. هوذا الراعي يُسمِع صوتهُ: "أنا الرَّاعي الصَّالِح والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف"، فاتبعني ولا تخف. وهذه هي غاية الصوم، أن يُهيئنا للسير قُدماً خلفَ ربّنا يسوع في الطريق الذي اختاره الله الآب له. أن نسمح لربّنا يسوع أن يرفع عنّا مخاوفنا، فنتبعهُ ونرافقه وهو يدخل أورشليم الرفض والألم والصليب. فالصليب، بذلُ الذات، اختيار أساسي في حياة الراعي، ربّنا يسوع المسيح الذي يهبُ حياتهُ بحرّية تامّة من أجل الخراف: "أَنا الرَّاعي الصَّالِح والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف (...) إِنَّ الآبَ يُحِبُّني لِأَنِّي أَبذِلُ نَفْسي لأَنالَها ثانِيَةً ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ. فَلي أَن أَبذِلَها ولي أَن أَنالَها ثانِيَةً وهذا الأَمرُ تَلَقَّيتُه مِن أَبي" (يو 10: 11- 18).
ربنا يسوع إذا هو الباب وهو الراعي والمرعى، وهو يعرفنا ويُنادينا اليوم بأسمائنا ويتقدمّنا على الطريق، وهذا الطريق هدفهُ واضح: أن يقودنا إلى الله الآب، فمن خلال ربّنا يسوع ندخل في علاقة الحُب بين الآب والابن: "أَنا الرَّاعي الصَّالح أَعرِفُ خِرافي وخِرافي تَعرِفُني كَما أَنَّ أَبي يَعرِفُني وأَنا أَعرِفُ أَبي وأَبذِلُ نَفْسي في سَبيلِ الخِراف". فجماعة ربّنا يسوع، كنيستهُ، هي تلك الجماعة التي وُلِدَت بمحبة الآب والابن، وأرتبطت بعلاقة مع الابن كإرتباط الابن بالآب، وهي تنال حياتها وهويّتها لا إستحقاقاً بل من خلال عطيّة حياة الابن. فليس أمام الكنيسة إلا أن تتبع ربّنا يسوع إلى أورشليم، إلى الصليب.
اليوم، ونحن نبدأ مسيرة الأسبوع السادس من الصوم، وفي خاتمتهِ سندخل مع ربّنا يسوع إلى أورشليم، تسألنا أمنّا الكنيسة إن كنّا مُستعدين لأن نتبعهُ محتفلينَ به في سعانينهِ وأصدقاء مُقربين منه في آلامهِ؟ هل ما زلنا نُفكّر في مسيحية مُريحة في متطلّباتها أم أن نتبع المسيح ونتخلى عن كل ما يمنعنا من ذلك بصدقٍ وإخلاصٍ؟ فالصوم لم يكن من أجل أن نكون "أناساً صالحين"، بل من أجل أن نُصبِح "تلاميذ حقيقيين"، فأورشليم ستكون تحدياً حتّى بالنسبة إلى المُقربين من ربّنا يسوع، فسينكره أحدهم، ويُسلمهُ آخر إلى أعدائه، ويهربُ البقية، لأنهم لم يكونوا مُستعدين لمثل هذه الساعة، وسيبقى إلى جانبهِ: مَن يُحبهُ فقط.