المواعظ
%PM, %11 %437 %2018 %12:%آذار

الأحد الخامس من الصوم - "أنا نور العالم"

كتبه
قيم الموضوع
(0 أصوات)

الأحد الخامس من الصوم

"أنا نور العالم" (يوحنّا 7: 37- 44/ 8: 12- 20)

"أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة" (يو 8: 12). كشفَ ربّنا يسوع عن هويتهُ ورسالتهُ. هو الكلمة الأولى التي قالها الله كانت: "لِيَكُنْ نور"، فكانَ نور" (تك 1: 3). هو نورُ الله، نعمةٌ منه ليُنير حياة كل إنسان، فالذي يُؤمِن به ويقبلهُ سينال نعمة أن يكون إبن الله: "أمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله"  (يو 1: 12)، والحقيقة كانت أن البعض لم يقبلوا هذا النور لأن أعمالهم شريرةٌ أو لأنهم فقدوا الرجاء مثلما فعل يهوذا الأسخريوطي عندما سلّم ربنا يسوع إلى أعدائهِ؛ فكتبَ يوحنا الإنجيلي عنه: "فتَناوَلَ اللُّقمَةَ إِذاً وخرَجَ مِن وَقتِه، وكانَ قد أَظلَمَ اللَّيل" (13: 30). 

تجاوزنا منتصف الصوم، ويُفتَرَض أن يكون قد قُمنا بمسيرة توبة صادقة ونزيهة في حياتنا، وتعرّفنا إلى الظلمة التي نعيش فيها وعلى واقعنا المؤسف والمُحبِط، وظهر لنا أننا محدودون فيما يُمكن أن نقوم به أمام عدد الخطايا الشخصية التي ارتكبناها. واكتشفنا أيضاً أننا لسنامستعدين أن نجابهها وأننا عاجزون عن تغيير العالم من حولنا. بل نحن عاجزون عن محاربة الشر والجشع والفساد والكذب والرياء الذي قد تغلغلَ في حياتنا. ولسنا نُنكِر أننا مسؤولون جميعاً عن هذا الواقع ولا يُمكن الإنسحاب منه، لأننا جميعاً "نُحبُ خطايانا" ولا نُريد الإقلاع عنها، فنبقى في الظلمة التي تأقلمنا معها. وهنا نسمع ربّنا يسوع يقول: "أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة"، وفي قولهِ هذا دعوة: "إتبعني" (مَن يتبعني)، وتباعتهُ كفيلةٌ بتغيير هذا الواقِع المُظلِم الذي نعيشُ فيه، وسنُعيد إلى العالم الوجه الحسَن الذي تشوه بالخطيئة: "ورأَى اللهُ أَنَّ النورَ حَسَن" (تك 1: 4). 

هذا الاختيار يُسمّى رجاء إذ فيه نعترِف بأننا لسنا قادرينَ على فعلِ شيءٍ تجاه هذا الواقع المرير والخاطئ الذي نعيشهُ ومجابهة التحدي الصعب، لكننا مدعوونَ للإصغاء إلى صوتِ الله المُحِب والإستسلام إلى إرادتهِ بحرية وإيمان واثقين أنه قادرٌ على تغيير هذا الواقع. فعلينا أن نقضي وقتاً في التعرّف إليه هو نورنا، وسيٌضيءُ حياتنا ليُعرّفنا حقيقة أنفسنا، ويدعونا للخروج من الظلمة التي نحن فيها ومُغادرة المنطقة التي نحن فيها ونعبُر إلى الضفة الأخرى حيث الله، وهذا الفعل يتطلّب شجاعة وصبراً وإلتزاما في مواصلة المسيرة مهما كانت صعبة، مؤمنين أنه لن يتخلّى عنّا ولن يخذُلنا، والصومُ نعمةٌ يمنُّ بها الله علينا، لا من أجل الإنقطاع عن الطعام، بل للإقلاع عن الخطايا، وقبول المسيح طعاماً وشراباً للحياة، فنحن نصومُ لأجل المسيح. 

هكذا يكون هذا الاختيار بمثابة "جذب المُستقبَل الذي يُريده الله إلى واقع اليوم"، والبدء بتحقيقهِ معه وليس دونهِ، واثقين بأن الأمور ستكون أفضل، ليس لأننا أشخاص متفائلون، بل لأننا نؤمِن بالله ونسعى لتحقيق إرادتهُ في حياتنا، وإيماننا به يجعلنا متفائلين. هذا الاختيار مؤسسٌ على الله، صخرة إيماننا، وأساسهُ الذي يدعونا للبناء عليه بيسوع المسيح، نور العالم، الذي جاء لنجدتنا لا ليُخلّصنا من خطايانا فحسب، بل ليعضُدنا ويسند ضعفنا ويُقوينا في مسيرة حياتنا، مؤمنينَ ومُعترفينَ أن المُبادرة جاءت منه، لأنه محبّة، ولولا عونه لما كان في مقدورنا أن نكون ما نحنُ عليه. هي حقيقة إيمانية نُصليها شاكرين في كل قُداس عندما يرفعُ المُحتفل الدعاء بعد رواية العشاء الأخير في القداس قائلين: "وكما أوصيتنا، لقد إجتمعنا نحنُ عبيدَك الضعفاء، لأنّك أسديتَ إلينا نعمةً عُظمى لا توفَى، إذ تجسدّت لكي تُحيينا بلاهُوتِكَ، فرفعتَ ذُلّنا، وأقلتَ عثرتنا، وبعثتنا وغفرتَ خطايانا وبررتنا من إثمنا وأنرتَ عقلنا وخذلتَ أعداءنا ونصرتَ طبيعتنا الضعيفة بمراحِمِكَ الفائضة". 

ففي وسط هذا الواقع المُؤلِم والمرير يصرخُ ربّنا يسوع منادياً: "أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة"، ومَن يُقبِل على هذا النور ويقبلهُ، سيُشرِق هو بشهادة حياتهِ: "إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ ومَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ" (يو 7: 37- 38). فكل مَن يشربُه يغدو نبع ماءٍ حيّ لمَن هم من حوله، لأن شربَ المسيح، سيتيح لنا أن ننقل المسيح إلى العالم. سيكون نوراً: "أَنتُم نورُ العالَم. لا تَخْفى مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل، ولا يُوقَدُ سِراجٌ وَيُوضَعُ تَحْتَ المِكيال، بل عَلى المَنارَة، فَيُضِيءُ لِجَميعِ الَّذينَ في البَيْت. هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (مـتّى 5: 14- 16). فعندما يخفُت نور العالم ينتظرنا المسيح أن نكون نحن أنوارهُ مُستمدين منه النور: "لأنَّ يَنْبوعَ الحَياةِ عِندَكَ ونُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ" (مز 36: 10). هذا الاختيار: "أن نكون نورَ المسيح على الأرضِ"، ليس اختيارنا فحسب، بل هو دعوة من الله ونداءٌ منه لنجعل حلمهُ واقعاً.

"أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة". أمام بشاعة خطايانا وظلمةِ عالمنا يدعونا ربّنا يسوع إلى تباعتهِ، وتحمُل مسؤولية هذه التباعة، فنكون "مشاعل نورٍ" تحمل فرحَ الإنجيل إلى العالَم، ونبعث رسائل تُطمئنُ العالم من حولنا. فالمحبّة تنتصر والطيبة ستغلبُ والأمانة ستثبُت والحقيقة ستنكشِف والثقة ستعظُم والإيمان سيتقوّى بالمحبّة القادِرة على تغيير رؤيتنا للحياة، والإنطلاق مؤسسين المسيرة على "محبّة الله" التي تغلّبت على الخطيئة واليأس بيسوع المسيح. دعوة إلى الخروج من عُليةِ الخوف التي سجنت التلاميذ والإنطلاق إلى الجليل، حيثُ نلتقي القائم من بين الأموات، والذي غلبَ بموتهِ الخيانة والنكران والهرب، وبعث فيهم الروح القُدس ليكونوا شهودا له فيالأرض كلها، ونحن معهم. 

قراءة 77531 مرات آخر تعديل على %PM, %11 %444 %2018 %12:%آذار

5005 تعليقات

رأيك في الموضوع

الرجاء اكمل كل الحقول المؤشرة بعلامة *