الأحد الرابع من الصيف
قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله (مر 7: 1- 23)
عالمنا اليوم مهتمٌ جداً بالمظاهر الخارجية والتي تُفسِد قلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا فتجعلنا أنانيين ومرائين نبحث عن رضى الناس ونسعى لجذب إنتباههم وكسبِ تعاطفهم بحثاً عن مصالحنا الشخصية. وفساد القلب يجعلنا خُبثاء نزرعُ الخصام والعداوة بين الناس، وهي كلّها مواقف تُبعدنا عن الله، المحبّة والصلاح. إهتمامنا بالمظاهر الخارجية وبما يقولهُ الناس عنّا يجعلنا أحيانا مخادعين نُخفي حقيقة مشاعرنا وما نُفكِر فيه من أجل أن يرسم الآخرون صورة حسنّة عنّا. فعندما نجعل نظرة الناس إلينا أهم من نظرة الله يعني إننا نؤمن بالناس أكثر من إيماننا بالله، والأخطر أَننا نُهينُ كرامة الناس لأننا نراهم وكأنهم "المعجبون"، فإن لم يُعجبوا بأفعالنا، أهملناهم. من هنا يبحث المرائي لا عن نظرة كل الناس، بل هو يبحث عن نظرة أُناس لهم مكانة في المجتمع. لاسيما في عصرنا الذي يبحث عن المظاهر. ترانا أحياناً كثيرة نُجامِل الآخر في حضورهِ وندينهُ في غيابهِ. نبتغي رضاء الآخرين فنُحسنُ الكلام عنهم، ولكننا لا نُحِبُهم. البحث عن الشُهرة والسمعة الحسنة جعلنا "نُمثل" أمام الناس فنتظاهر بالمحبّة وداخلنا مليءُ بالغضب والحسد. وهذه علامةٌ على "بُطلانِ" محبتنا، وهي كلّها علاماتٌ تُشير إلى أن قلوبنا أصابها جفافٌ روحي وصارت قاسية، صلبة لا تتحمل حضور الله، مما جعلَ الله يقول على لسان إشعيا: "هذا الشعبُ يُكرمني بشفتيه، وأمّا قلبُه فبعيدٌ عني. وهو باطلاً يعبدني بتعاليم وضعها البشر".
لذا، يُنادينا ربّنا يسوع لنهتمَّ أكثر "بالداخل؛ بالقلّب" فيقول: "أصغوا إليَّ كلّكُم وإفهموا: ما مِن شيءٍ يدخل الإنسان يُنجسهُ، ولكن ما يخرجُ من الإنسان هو الذي يُنجسُ الإنسان. يدعونا ربّنا إلى أن يكون القلبُ مُستعداً لقبول رحمةِ الله فيضحى أرضاً خصبةٍ ترعى كل ما هو طيّبٌ وحسنٌ من أفكارٍ ونوايا تُترجَم بأعمال المحبّة والرحمة، فيتنقّى القلب بحضور الله وينتعِش ليُكرِم الله والإنسان القريب. فما نفعُ غسل اليدين إن لم يكن القلب مُطهراً من الأفكار والظنون السيئة؟
طلبَ ربّنا يسوع العودة إلى المعنى الصحيح للإيمان: أن يكون لنا قلبٌ مؤمنٌ بالله ونقيٌّ تجاه الإنسان. قلبٌ يبحث عن حضور الله شاكرً ممجداً. فالقلب النقي يرى عظائم الله من حولهِ، ويرى في الإنسان إبداع الله، فيخدمهُ مُحباً، ويُقدّس حياتهُ بتعبّدٍ صالحٍ ومُستقيم، فالعبادة الصادقة تنبع من القلب النقي ذو النظرة الصافية واللسان اللطيف الصادِق، الخالي من الكذب والرياء والخُبث. ربّنا يتحدانا قائلاً: "ما نفعُ الأيادي النظيفة والهيئة الخارجية المهيبة إن كان القلبُ مريضاً بالخُبثِ والرياء؟
ربّنا يدعونا اليوم لأن نتواجهُ مع دواخلنا مؤمنين أن الله الآب يسنُدنا بمحبتهِ ورحمتهِ، وينتظر منّا تعبداً نزيهاً وتوبة صادقة. إلهنا وملكنا يتطلّع إلى قلوبٍ نقيةً، متواضعة تنفتح للإهتداء ولا تتصلّب في كبريائها وتنغلق في ريائها، فيقدّس حياتنا كلّها، خارجاً وداخلاً، بعيدأً عن النفاق والإزدواجية.
كلام الله، إنجيل ربّنا يسوع ليس كتاباً للقراءة والتأمل فحسب، بل توجيهٌ للحياة. ربّنايقول لنا اليوم: أصغوا إليَّ كلكّم وإفهموا ... توجيهٌ صريح وواضح يتطلّب الطاعة من دون إبطاء: فليس أمامنا اختياراتٌ حرة نقبلها او نرفضها، فيُعلمنّا ربّنا يسوع أن نقاوة القلب هي التي تؤهلنا لمُشاهدة الله: "طُوبى لأنقياء القلوب فهم يُعاينون الله"، يشاهدونهُ في كل خلائقهِ الحسنة التي أبدعها. ذي القلب النقي يرى حضور الله ويشكر لمستهُ، بخلاف القلبِ السيء الذي يرى الشر. لذا صلّى المزمّر إلى الله قائلاً: "قلباً نقياً أخلق فيَّ يا الله" (مز 50: 12)
القلبُ النقي نعمة من الله. قلبٌ جعلَ أفكاره وإرادته منسجمة مع كل ما تقتضيه قداسة الله، قلبٌ يرى العالم والناس بعيني الله، فيجد القريب في حياته مكاناً لائقاً ويكون محبوباً. فلا يمكن أن يُستغلَّ أو يُحسب سلعة. قلبٌ تعافى وتطهّر من الظنون السيئة وتحرر من الأفكار الشريرة، ويرفض سمعاها أو نشرها بين الناس. قلبٌ قادرٌ على قبرِ المشاكل ليصبح جسرَ المُصالحة. قلبٌ يعرِف أن يشكر ويمدح ويُشجع ويبُارِك. قلبٌ متواضع لا يستمتع بالحديث عن خطايا الناس وهفواتهم ولا يطيب له أن يتحدث بها في كل مكان ويضخمها، لتظهر اخطاءَه الخاصة طفيفة. قلبٌ تائبٌ إلى لله يعرف أن هناك خشبة في عينيه تمنعهُ من رؤية القشّة في عين القريب (متى 7: 3- 5).
لذا، يدعونا ربّنا اليوم إلى ثورة على أنفسنا أولاً، لتكون مسيرة التوبة نحو الله من القلب فنعيش محبة صادقة للقريب لا رياء فيها ولا خداع، واضعينَ أنفسنا أمام الله مثلما نحن لا مثلما يُريدنا أن نكون. فعندما أضع نفسي أمام الله أكتشف خطيئتي، فلا أتسارع للحكم على الناس، لأنني سأرى الخشبة في عيني وهي ستمنعني من رؤية القشة في عيني أخي (متى 7: 5). علينا أن نفحص ضميرنا اليوم بصدق ونحن نشترك في وليمة ربّنا المسيح: هل كنت مرائياً في حياتي؟ متى وكيف؟ ومع مَن؟ هل أهتم بنظرة الناس أم بنظرة الله؟ هل استخدمتُ مواهب الله في حياتي لتمجيد اسمي ام لتمجيد الله!