تفرض الكنيسة بين فترة وأخرى فترات صوم على المؤمنين، ويقبلها الناس عادة إطلاقاً من أن الكنيسة أم ومعلمة وتلتزم بمسؤولية تقديم حياة مسيحية يقتدى بها. لكن ما هي أهمية الصوم في حياتنا؟ وكيف يمكن أن يتميّز صوم المسيحي عن غيره الذي يُقّدِم أيضاً صوماً (المسلمين ورمضان)؟ هذا ما سنحاول طرحه في هذا اللقاء.
الصوم:
هو الامتناع عن الطعام والشراب، أو عن ما يفضله الإنسان لمدة محدودة ولغايات معينة. ويختلف الصوم الديني عن غيره من الأصوام (قبل العملية الجراحية، الريجيم...) في أنه فعل رمزي له علاقة بكوننا في عهد (علاقة) مع الله. لذلك يتجه الصوم الديني نحو الله وليس نحو الإنسان. والإنسان يحرم نفسه مما يريده ويرغبه حراً جواباً لمبادرة الله في حياته.
الإنسان - حاجات
يُولد الإنسان وفيه رغبات وحاجات تُريد أن تُكَّمَل هنا والآن وبشكل تام. يجوع فيحتاج إلى طعام فيبكي لتأتي أمه وتُكمِّل حاجة الأكل. وهكذا العطش والدفء. وكلما كَبُرَ الإنسان تعددت حاجاته أكثرَ فأكثر. فيتصور إنه له الحق دوماً في تكميل حاجاته دوماً وبشكل تام. ويتصوّر بنفس الوقت أن العالم كله في خدمة حاجاته. وتكميل الحاجات لايأتيه دائماً بشعور من الراحة والإطمئنان فيعتقد أن ذلك هو طبيعي جداً (أن يحتاج وأن تُكّمل حاجاته).
هناك ظاهرة أخرى علينا أن نلاحظها وهي فعل الأكل الذي هو وسيلة في إتمام الحاجات، فيلتهم الإنسان (الطعام) ويُدخله إلى نفسه ليبقى فيه ويُشبعَه، يريحهُ وهكذا يُكّمل حاجاته. فليس من الغريب إلى أننا نحاول في حياتنا التهام كل ما نريد ليكون جزءاً منا، فينا، ولنا وحدنا. ولكن لنتبه، فالإنسان يُلغي، يدمر ما يأكله، لا يبقى له وجود. كل شيء يُمحى، يُفنى ويبقى هو وحده فقط. فليس من الغريب إذن إننا نجد في بعض القبائل البدائية أن الإنسان يأكل لحم أعدائه بعد قتلهم رمزاً للانتصار عليهم، لفنائهم، تدميرهم. وهكذا يبيد كل شيء يقف أمامه. ويُكمل حاجته ويُدمِّر الحاجة في نفس الوقت. فهو أي المقاتل يشعر بالخوف من جراء تهديد العدو، وهو يحتاج إلى الأمان وهكذا يحارب ويجاهد إلى أن يقضي على العدو وفي نفس الوقت يمحي كل قوى الشر نهائياً.
المهم في حديثنا هو فعل الأكل، ففيه يُكمّل الإنسان حاجة، ولكنه في نفس الوقت يدمّر ويفني ما هو خارج عنه ليكون هو فقط. فالإنسان يحب نفسه فقط ولا يرغب إلا راحة نفسه وإطمئنانها.
الإنسان - حاجات - الصوم:
إذا كان الإنسان يحيا من خلال الشعور بالحاجات واتمامها، واذا كانت هذه كلها من فطرة الإنسان، فأين الخطأ فيها؟!
الخطأ عادةً هو في موقف النسان تجاهها. فالانسان يتصور أن له الحق في أن يفني كل شيء من اجل راحته هو، إشباع رغباته هو، وهكذا يبقى هو السيد، المتسلط المطلق. تجارب الشيطان ليسوع، بينّت لن أن في الإنسان رغبة السيادة، التزعم، التسلط، أن يُحمل على الأكتفا متعالياً على الجميع. فيأتي الصوم ليُعلّم الإنسان أن يتعامل بإنسانية مع ما حوله. أن يعرف قيمة الغذاء ويأكل لا من أجل الأكل فقط، بل ليحيا بإنسانية. نحن لا نعيش لنأكل بل نأكل لنعيش. فليس الصوم رفضنا لإدخال كمية من الطعام إلى بطوننا، إنما هو محاولة لتربية أجسادنا أن نتعامل بإنسانية مع ما هو حولها، فلا تلتهم، تأكل، تهضم الآخر وتُفنيه. بل تحاول أن تتعلق معه، تتحاور معه. (كُلنا يُلاحظ أننا نتعب كثيراً في تحضير مائدة الصوم دلالة لأهمية وقيمة الطعام في حياتنا في فترة يُفترض أننا لا نهتم كثيراً بالطعام). الصوم ظاهرة تُعَّلِم الإنسان كيف يُربى حاجاته وهو إنسان في وسط جماعة. الصوم يُذكِّر الإنسان أن لا يحاول جعل الآخرين (الطعام، الشراب، الناس) في خدمته، بل أن يكون إنساناً معهم ومن خلالهم.
الصوم المسيحي:
ليس من الغريب إذن أننا نجد أن الكتاب المقدس يُفضل أصواماً إنسانية غير الانقطاع عن الطعام والشراب. أصواماً تُحرر الإنسان من سيطرة حاجاته ورغباته. أواماً تجعله رحوماً تجاه الناس، عادلاً معهم، محباً لهم. أصواماً لا تُرجِعه إلى ذاته والى تساميها، بل تجعله في علاقة مع الله. كُلنا سمع الرب يقول لنا بلسان إشعيا النبي:
أهكذا يكون صومٌ أردته
يوماً واحداً يتضع فيه الإنسان؟
أم يكون بإحناء الرأس كالعُشبةِ
وافتراش المسوح صوماً
ولا يوماً يرضى به الرب.
فالصوم الذي أريده.
أن تحل قيود الظلم
وتفك مَرابط النير
ويُطلق المُنسحقون أحراراً
وينزع كل ير عنهم
أن تفرش للجائع خبزك
وتدخل المسكين بيتم
أن ترى العريان فتكسوه
ولا تتهرب من مساعدة قريبك. (إشعيا 5:58-7)
ربنا يسوع لا يجعل للصوم أهمية ما لم يرافقه صلاة (الصوم والصلاة). الصوم المسيحي هو حضور الإنسان المصلي أمام الله، واستعداده لقبوله في حياته. وهذا يتطلب بالضرورة تقديم شهادة حياتية تميز المسيحي عن غيره. إيماننا ليس نظريات، فما فائدة معرفة عظائم الصوم، إذا لم يرافقه فعل توبة واهتداء إلى الله! سلوك مسؤول تجاه محتاج، فقير، مسكين، مظلوم.
نعرف جيداً قيمة وأهمية الغذاء ونعي أيضاً أن الانقطاع عنه يؤدي بنا إلى الموت. فالصائم يرغب الموت عن الحياة ليولد لحياة جديدة. فينقطع عن الخطايا (الحسد، الجشع، الكبرياء، الكراهية، النفاق) ليولد إنساناً (محباً، متواضعاً، خدوماً) للآخرين وليس لنفسه. يموت ويميت فيه الإنسان الذي يريد أن يسحب الكل لخدمته ومصالحه ورغباته، ليقوم مع يسوع المصلوب من أجل الآخرين. فالصوم مثل الصلاة ليس من أجلي ومن أجل مصالحي وفوائدي الشخصية، بل هو دائماً من أجل الله، الآخر. هكذا يقبل الصائم في رحلة الصوم هويته الأصلية: إنسان مكون على صورة الله. وتحاول الكنيسة أن تذكر المؤمن أن الصوم هو رحلة مؤلمة ومرهقة، لا بل مميتة مثل درب الآلام، ولكنها من أجل الوصول أن نسلم حياتنا بين يدي الله.
يعلم الصوم المسيحي أن الإنسان أن يأخذ موقفاً صحيحاً إزاء كل ما هو خارج عنه. الغذاء، العالم، الآخرين. لا يستملكم ويفنيهم، بل يقيمهم ويتعايش معهم.
الصوم - جواب الإنسان لحضور الله:
يسأل البعض هل يمكن أن أغير الله بصومي؟ أن أؤثر عليه ليبررني؟
نحن نؤمن أن الله هو الذي بادر إلينا، أحبنا فأوجدنا، هو البداية وليس نحن. جاء بيننا، ليكون واحداً منا. وتجاه ذلك نجاوب على هذه المبادرة بطاعة. ففعل الطاعة هو فعل إيمان في نفس الوقت: أن تؤمن يعني أن تقبل حضور الله وتظهر هذا الحضور في حياتك. أن تحيي هذا الإيمان بالأفعال، وإلا فهو إيمان ميت، فالإيمان والأعمال هما جواب الإنسان لحضور نعمة الله في حياته.
ولكن كيف يجاوب المسيحي لحضور الله في حياته؟
أن يدع الرب يدخل بيته: ها أنا واقف على الباب أقرع، فكل من يفتح (يطيع، يقبل) أدخل وأتعشى معه. أي أن ندع الرب هو يفعل فينا ومن خلالنا (يدخل، يتعشى). أن نترك مجالاً، فراغاً ليعمل. هنا تأتي أهمية الصوم في أن لا نملئ فراغنا هذا بأكل، بشرب، بسلوك أناني (حسد، طمع، جشع، كبرياء، نفاق) بل نتركه كله لكلمة الله. إنه - الصوم - حركة نحو الله، الآخرين، وليس حركة نحو ذاتي ورغباتي ومصالحي وفوائدي. أن نجعل أنفسنا في خدمة حاجات الآخرين وليس حاجاتنا فقط. إنه فعل محبة: حضور تام وكُلِّي للآخر. تحرر من الأنا ورغباتها، لأكون مستعداً لقبول الآخر في حياتي، وهكذا أكون مُطعِماً للجائع، ومُنصِفاً للمظلوم، وعادلاً مقاسماً خبزي مع آخرين.
الصوم مدرسة تُعلّم الإنسان لا كيف يتجنب الخطايا (فهو مطلب أناني) بل كيف يُحب الآخرين. لا نريد إنسان معجزات، بل إنساناً يشهد لحب الله في حياته، ويقدمه عطية مجانية للآخرين. يُعلمنا الصوم أن نقبل ذواتنا مثلما هي، وأهم من ذلك نقبل مسؤولية الآخرين: فلا نهتم بالأكل والشرب (الذي هو اهتمام الأنا)، بل انقطع عنه والتفت إلى الآخرين.
الصوم - الأفخارستيا:
الصوم الكبير فترة مميزة في السنة الطقسية الكنسية. كانت وما زالت فترة تعليمية، تحضيرية لقبول فصح يسوع وقيامته. قدمتها الكنيسة للموعوظين لتُعلِّمهم مبادئ الإيمان والاستعداد الصحيح للعماذ ثم الأفخارستيا.
قبل لحظات قلنا: على الإنسان أن لا يتعامل مع العالم عن طريق الفم فقط والأكل. وها نحن الآن أمام حقيقة: ضرورة أكل جسد المسيح. فكيف يمكن أن نوَّفق بين هذين المفهومين؟
الفرق واضح للمؤمن المسيحي في أن الآكل الأول هو من أجل جسده، ذاتي، حياتي وينتهي كل شيء بهضم الأكل. في حين أن الأكل الثاني (الأفخارستيا) هو مسؤولية. فأنا استقبل في حياتي يسوع المسيح. عطية الله للإنسانية. وهو مسؤولية إذ تجعلني أُدخل إلى حجياتي مَنْ أعطى ذاته، وأقبله ليُحيِّي إنسانيتي وهو يدفعني إلى أن أقدم ذاتي خدمة للآخرين.
أحاول بالآكل الجسدي أن أجعهل نفسي مركز الخليقة، وأصوم لأُعيد كل شيء إلى مكانه. في حين أن في الأكل الأفخارستي أجعل يسوع هو مركز (لب) حياتيومنه وفيه أحيا. هو طعامي وقوتي في رسالتي المسيحية بين الناس. هو أمني وسلامي واستقراري وراحتي (شينن وشلاومن).
فلن يكون الصوم حرماً من أجل الموت، بل استعداداً احتفالياً لقبول القيامة. قيامةً تُمجِّد أجسادنا وتعطيها قيمتها الحقيقية، تلك التي جعلت الله يتجسَّد، يأخهذ جسداً ليتعلق معنا، ويظهر لنا قبوله لنا. فلا ترفض الغذاء بل نتقاسمه بفرح مع آخرين. إنه فعل إيمان تُرافقه صلاة تدعو الله ليأتي إلينا. كما يشاء ومتى ما يشاء. صلاة تلتقي الله، الله الأقرب إلى نفسي مني. الله الذي فيه تستريح نفسي. لا يعني هذا إنه مُخدِّر لأعصابي، فأنا لا أصلي كي أستفيد شخصياً. الصلاة هي من أجل الله. الصلاة مثل الصداقة، ليست من أجلي بل هي لكلا الطرفين، وإذا ما عشناها حقاً عندها سنجني ثمارها. صومنا، صلاتنا، هو جوابنا، وفتحنا لباب حياتنا ليدخل الله إلينا (رؤ 20:3).
الصوم والصلاة ليستا واجباً، بل هما ظاهرة طبيعية لمن هو في علاقة مع الله. لا أحد منا يقدر أن يصلي من تلقاء نفسه، لا أحد يقول أن يسوع المسيح ربٌّ إلا بالروح القدس (1قور3:12) إنما الآخر الذي هو فينا يبادر فينا لنصلي. نرغب في الصلاة. الرغبة في الصلام هي صلاة نفسها. إنها فعل الله يعطيها فقط عندما يريد، وحينما يريد وكما يريد.
الصوم والصلاة هي أن تسمح لله بأن يشغل نفسه فينا، ونحن مستعدون تماماً لذلك. الصوم هو أن تفرَّغ لله مكاناً في حياتك، والصلاة قولك نعم واستقبالك لله ليملئ هذا الفراغ. أن ندع إذن مكاناً لله، نضيِّفَه فيه. وهذا دوماً من خلال استعدادنا لخدمة الآخرين. لا لأسباب نفسية واجتماعية أو فلسفية. بل لأننا مكونون على صورة الله. الله هو الأول الذي يخدم الآخر، يخرج من ذاته نحو الآخر، ينسى ذاته من أجل الآخر، يموت من أجل حياة الآخر.
في الكتاب المقدس اراء كثيرة متنوعة في هذه القضية . استحسن ان نكتفي بنظرة بسيطة الى ما يقول سفر واحد بهذا الخصوص . فليس من السهل ان نلخص فكرة المؤلف تلخيصا . فلنتابع خطواته .
ايوب البار
تبتدئ القصة بوصف ايوب مثالا للرجل التقي الصالح الذي هو مفلح في الحياة . انه غني ، له اولاد كثيرون وممتلكات ، ويعيش عيشة الانسان الصالح . انه متدين ويري عبادة الله عبادة غير مغرضة . " ساطان " في السماء يضع علامة استفهام وراء عدم الإغراض هذا. يقول : " إذا كان عندك كل ما يبتغيه قلبك ، فأنا أقدر ان اكون تقيا . سهل ! دعني أؤذيه قليلا سترى الى اي حد يكون تقيا ! " OK" " اوكاي سو " فينزل " ساطان " البرق على البيت الذي فيه اجتمع اولاد ايوب ، فيموتون . كل بهائمه تسرق . ما بقي شيء لكن ايوب لا يجحد الله . " ساطان " في حوار جديد مع الله يقول : " هكذا عند اغلب الناس : يظلون يؤمنون على شرط الا تمسهم هم " . فيضرب " ساطان " ايوب بقروح ومرض وشفاء . ايوب المريض جالس على مزبلة خارج المدينة ، ولكنه لا يسب.
ايوب المتمرد
بعد الاستهلال مع ايوب البار ، يلي جزء السفر الثاني ويوصف فيه ايوب نموذج الانسان المتمرد . يقول :" لماذا لي انا ، وليس للأخرين .....؟ اصدقاء جاءوا للتعزية . ولكن عندما يظل ايوب يشتكي يضجرون منه فيجادلونه . هذا الحوار بين ايوب واصدقائه يشمل السفر كله تقريبا . في البداية يحسون مع ايوب ويحملون معه حمل تألمه . ولكن شيئا فشيئا يشتد كلامهم فينتهون متهمون لأيوب ، فيشرحون لأيوب اين سبب الامه واقع : يرتأون ان ايوب نفسه سبب الامه . ( نعرفه اليس كذلك ) : عندما تكون غنيا ومفلحا يصادقك الجميع وما من احد يلومك على سلوكك . ولكن اذا ساء طالعك ، فجميع اصدقاؤك وجميع الاخرين يقعون عليك قضاة حكاما.
ايوب يغضب من توابيخ الاصدقاء : " لم ارتكب خطايا كذا في ماضيَ حتى تصيبني كذا الام ! بالطبع ، انا خاطئ ، ولكن ليس لأحتمل الام لهذه الدرجة .... الله صنع بي هذا ، وهو لا يبالي ... لماذا هذا التألم ؟؟؟ انا لا اصدق حلكم ان الانسان سبب تألمه . انظروا فقط حولكم : هلا يفلح الاشرار ويستاء الاخيار ؟؟؟ هل هذه عدالة؟ انتم لا تعطونني جوابا مرضيا . سأطلبه من الله فليوضحه هو " .
جواب الله
ايوب يسأل . الله يجيب . " اين كنت حينما اسست الارض ؟ هل تعرف انت خطة الخلقة ؟ هل تعرف كيف تحفظ الكواكب في نظامها ؟ هل للمطر أب ؟ تعرفه ؟ هل لك سلطة على الوحوش ؟ هل تضع حلقة في انف التمساح وحبلا فيها فيتبعك؟ هل لك سلطان على الكركدن ؟ قل لي ، اذ انك تعرف كل شيء !! الله يشيد بعظمة الخلقة . الانسان فيها على الهامش . فهو يحاسب الله ؟؟؟ يبين الله ان مفاهيم العدالة البشرية لا تصلح للحكم في الله وكلية الكون . الاصدقاء حاولوا تخفيض الله محاسبا للأخلاق ، له ميزان يزن فيه الافعال البشرية . يبين الله انه لا يوصف بهذه المفاهيم البشرية . يرفض فكرة الثواب والجزاء ، فكرة العناية والقدر . ليس تخطيط الله يقاس بمقاييس بشرية . يعطي الله جوابه على شكايا ايوب نظرة الى العالم من منظور إلهي ويبين ان المقولات البشرية لا تصلح لفهم تخطيط للعالم.
رد ايوب
من خلال جواب الله يرى ايوب العالم لحظة من منظور الله ( المختلف تماما ) . انه يفتح عينيه لنظرة " من فوق " ، فيرى نفسه لحظة واحدة فقط من منظور الهي . فيعترف بجهله ويتقبل بأنه تراب ورماد فقط . لا حاجة من بعد ان يعرف غموض الله . انه خال متحرر من الامال الكاذبة الصادرة من الفكرة القديمة للجزاء والثواب التي اضلته هو واصدقائه .
رد الله على ايوب
فيرد الله مرة اخرى قائلا ان ايوب احسن طرح الاسئلة وعدم قبول فكرة المجازة القديمة . احسن في ان لا يكتفي بكلام الايمان التقليدي . لان الاسئلة التي طرحها ايوب كانت اسئلة حقيقية في نفسه وفي علاقته ، انطلاقا من تألم واقعي . يقول الله : الاصدقاء اساءوا الكلام . في زيارتهم لأيوب لم ينطلقوا من مبادئ لاهوتية عامة ، لاهوتية المجازاة . ايوب ينطلق من واقع الحياة وليس من ماهو عام . الاصدقاء حبسوا الله في حبس فكرة الجزاء.
الخاتمة : طيب هو كل ما ينتهي جيد
بعد كل هذه التفكرات العميقة ينتهي السفر انتهاءا سعيدا . يعاد اليه 7 بنين و3 بنات . وبهائم ومواش اكثر من ذي قبل . بعض القراء يتخيبون بهذه الخاتمة . اخيرا تخلصوا من تلك الفكرة للمجازاة ، فالان يكافأ ايوب مرة اخرى على جوده. لماذا ؟ ماذا نصنع منه ؟ ايلي ويزل يلاحظ بحق ان ايوب لم يسترجع اولاده الاولين بأولاده الجدد : يبقى الالم والحزن من اجلهم.
ايوب صور ذات ثلاث لوحات
ممكن وصف سفر ايوب تمثيلية ذات ثلاث فصول : الفصل الاول تقديم الشخص الرئيسي مع الممثلين . الفصل الثاني ، الحوار ، الشخص الرئيسي في تصارعه وتطوره النفساني . يتعمق فكره في الله . في خلفية الاصدقاء الذين لا يتغيرون فكرا . الفصل الثالث مهيج جدا : حوار بين الله وايوب الذي يرد ردا قصيرا . دراما تطور شخصية في الفكر والاحساس . الستار ينزل بعدما اخذنا ومضة من الوضع المجيد الجديد لأيوب.
ممكن وصف السفر صورة زيتية ذات 3 الواح : الاستهلال في اللوح الاول :الانسان التقي ايوب في علاقته بالله . اللوح الوسطاني رسم تفاصيل الحوار الطويل بين ايوب واصدقائه : يبينون الله في الصور الكثيرة التي صنعها عنه البشر . اللوح اليميني يظهر الله كما يرى هو نفسه : صورة الله والعالم منظورة من " فوق " ( مثل لوحة سلفادور دالي للصليب ) . لا نتخذ الالواح الثلاثة فردا فردا : انما تشكل وحدة متكاملة . ان القارئ الذي يجابه بصور الله انطلاق من البشروصور الله من نفسه يحدى الى ان يخلق صورته هو .
21) داود و أبشالوم
تشكل قضية داود مع بتشابع ومقتل أوريا نقطة انعطاف في ملكية داود. فالنبي ناتان الذي في 2 صم 7 أعلن إليه موعد يهوه لصالح سلالته ، يجب عليه في 2 صم 12 أن يهدده بقصاص. فداود الذي حتى ذلك الحين كان "رجلاً على حسب قلب الله " وملكاً ناجحاً، يواجهه منذ الآن فصاعداً قتلٌ وثأرٌ وانقلابات، وذلك في حضن بيته. النحس الذي تنبأ به ناتان يبتدىء ينزل على داود. "والآن فلا يفارق السيف بيتك للأبد .... إني مثيرٌ عليك الشر من بيتك" ( 2صم 12 : 10-11).
هذه الرواية الكتابية لها شيء من المأساة اليونانية القديمة وشيء من الرومانس الفروسي من القرون الوسطى وشيء من المسلسلة " الصابونية" من تلفزيون اليوم في آن واحد. عدد كثير من الأشخاص يمثلون على المسرح، ومن المفيد لك أن تصنع خلال القراءة جدولاً لئلا تضيع سلك القصة. نحن هنا في ما يدعى "تاريخ خلافة داود على العرش( 2صم9-20+1مل 1-2). مسألة الخلافة على العرش تتوضح فيها مسألة تاريخية حقيقية. النص مفعم بتفاصيل واقعية تاريخية، يفحص عن تشابكات اجتماعية وسياسية، يصف طباع الممثلين، عندنا هنا شكل فريد من كتابة التاريخ في المشرق القديم، من المرجح أن شاهد عيان كتبها، إنسان مثقف يتردد على البلاط وتحت يده سجلات رسمية ومعلومات شفهية.
لا تبدو الرواية "دينية" جداً: كأنها رواية دنيوية. لا يذكر يهوه كثيراً ولا يوصف كسيد التاريخ أبداً. إلا أن بين السطور الرأي النبوي المشيحي للمنقحين الآخرين الذين نحو وقت المنفى ألفوا التاريخ الديوترونومي (الأسفار يشوع إلى 2 ملوك)كإعادة نظر نقدي إلى ملكية الماضي وإلى أنتظار المستقبل المشيحي. إنها رواية إيمانية لم تُختَتَم بعد، بل ما زال قاريء اليوم متورط فيها.
تامار (2صم13)
داود كمثل جميع الملوك في المشرق القديم كان له نساء عدّة (2صم 3 : 2-5/5 : 13-16). الأولى اسمها أحينوعم ولدت له بكره أمنون. أما معكة وهي أميرة من جشور (منطقة صغيرة شمال شرقي كنعان) فولدت له ابناً ابشالوم، وابنةً تامار. فشغف أمنون بأخته تامار غير الشقيقة حباً حتى سقم. فما كان يسهل لأمنون أن يلتقي بتامار، لأن الأميرات غير المزوجات بقين مقفولاً عليهن باب حريم النساء. ولكنه بحيلة ينجح في أن تأتي تامار إلى غرفته. فيغتصبها. ثم، حالاً، يبتديء يكرهها كراهة شديدة فيرميها في الشارع. إنه عار مضعف على تامار: أولاً منتهكة ثم مطرودة. فلا يمكن أبشالوم ترك الأمور على حالها: يجب أن ينتقم لأخته. بفارغ الصبر ينتظر فرصته. بعد سنتين، لمناسبة عيد جزّ الخرفان، يقتل أمنون. ثم يهرب إلى جده من جهة أمه. لا بد من الهروب إلى ملجأ لأن قانون الثأر كان قانوناً من حديد في تلك الأيام: كان على أقرب قريب لأمنون المقتول، وهو داود أبوهما في هذه الحالة ، أن يقتل القاتل. هذا مطلب الحق القبائلي في إسرائيل. ولكن الزمن يشفي جروحات عدة.بعد ثلاث سنين تَعزَّى الملك داود عن حبيبه أمنون. وصار أيضاً يشتاق إلى إبنه أبشالوم. ولكن لا يمكن أن يُبَيِّنه. لا يجوز للملك أن يصبح عاطفياً، ثم قانون الثأر لا يعرف الرحمة . يوآب ضابط جيش داود ومستشاره يلاحظ ما يحدث . و هو يفهم أن كذا صراع في حضن البيت الملكي لا ينفع الدولة الجديدة كثيراً. فيريد أن يساعد الملك في ترك قانون الثأر وشأنه وفي تصالحه مع أبشالوم. فمن في تلك العمليات أصلح من امرأة ؟
المرأة الحكيمة من تقوع(2صم14)
يوآب في تنفيذ خطته يستخدم خدمات امرأة حكيمة من تقوع. هي متنكرة أرملة فقيرة ترفع قضيتها إلى داود الذي ملكاً صالحاً يخصص في كل يوم وقتاً لاستقبال الفقراء والمحتاجين ولسماعهم. فتروي المرأة أن كان لها ابنان وأن واحداً قتل الثاني وأن أهل الفقيد رجلها يريدون قتل الإبن الثاني بحجة أن يأخذوا الثأر، ولكن بالواقع لكي يستولوا على الميراث. فحينئذ لا يعود يكون لها أحد ولا شيء !
تستجلب المرأة انتباه داود فيعدها بأنه سوف يعتني شخصياً بشأنها. ولكن المرأة لا تستحيي بسهولة. فتلحّ، تلحّ ... فتأتي بالملك إلى أن يحلف يميناً غالية باسم الله. "حي يهوه ! إنها لا تسقط شعرة من ابنك على الأرض" (14 :11). ثم تروي المرأة أنها كانت قصدت القصة مثلاً على شأن أمنون وأبشالوم. فتسأل لماذا لا يسمح الملك إلى ابنه أبشالوم بالعودة. فداود افتهم أن يوآب وراء هذه القضية فيستسلم ويقول:"هاءنذا أفعل هذا الأمر، فاذهب و رد الفتى أبشالوم "(21). فيسمح لأبشالوم بالعودة والإقامة في أورشليم. ولكن سنتين أخريين تفوتان قبل أن يرى وجه أبيه، مرة أخرى عن طريق حيلة .
ماذا تصنع امرأة تقوع؟ إنها تصنع ما صنعه النبي ناتان: تحكي مثلاً يصغي إليه الملك مفتوناً ويجعله على بصيرة من سلوكه: إنه يفتهم أن القصة تقصده هو. في القصة ملامح أخرى تبين أن امرأة تقوع نبية حقيقية. هي تدير الحوار وتأتي بالملك حيثما تريده. تشرح الحياة شرحاً إيمانياً وتجعل تصرُّف داودإلى جانب تصرف الله مقارنةً. من المدهش كم مرة تذكر اسم الله:"لم نويت مثل هذا على شعب الله ؟" (13)،
"ما دام الله لا يأخذ نفساً ، يخطط له تخطيطاً حتى لا ينفى عنه المنفي"(14)،"فإن الملك سيرضى بإنقاذ أمته من يد الرجل الذي يريد أن يفصلني، أنا وابني معي، من ميراث الله "(16)، "وليكن يهوه إلهك معك"(17). فهذه الطريقة تجعل الملك داود امام مسؤوليته. الا انها تؤمن بداود ايضاً تثق به، توقظ ما فيه الاحسن والامثل. حتى تعطيه اسماً جديداً: سيدي الملك هو كملاك الله (17) فهكذا تأتي بداود إلى أن يتجاوز قانون الثأر القاسي الصارم وأن يصنع شيئاً جديداً بديعاً: صنيعةً من صنائع الملك المشيحي، فعل غفران عظيماً.
داود هربان (2صم15-17)
ولكن أبشالوم يطلع ابناً عاقاً. أصابه مس من عطش السلطة. يبتديء يتظاهر تظاهرات ملكية، يدبّر لنفسه مركبة فخمة وحرساً شخصياً يواكبه وخيلاً–شيء جديد مجهول سابقاً-وينتحل لنفسه القضاء في الباب. ويكتسب تأييداً أكثر فأكثر لمؤامرته. فانقلب أحيتوفل مستشار داود الشخصي إلى المتآمرين. وأخيراً يذهب أبشالوم إلى حبرون مدينة الآباء المقدسة، حيث بدأت ملكية داود، فيُعلَن ملكاً (2صم15: 1-12). ربما استفاد أبشالوم من استياء أهل حبرون من استبدال داود مدينتهم بأورشليم كعاصمة المملكة. على كل حال استغل التوترات الباقية بين داود وبين انصار بيت شاول.إن "رجال إسرائيل"- إذن الأسباط الشمالية- هم الذين يمشون وراء ابشالوم (2صم15 :10و13). وحتى مفيبوشث ابن يوناتان الذي كان داود قد عامله بكثير من التكريم (2صم9) تنعش فيه ثورة أبشالوم طموحات جديدة ( 1صم 16 : 3).
يهرب داود بعجلة من أورشليم هو وبعض الأولياء وقسم من الجيش. أما سراري الملك فيتركهن في القصر. مما يلاحظ أن الذين ظلوا أمناء لداود هم خصوصاً المرتزقة الأجانب، مثلاً قائدهم إتّاي أصله من مدينة جت الفلسطية ( 15: 19-22). فيعبر داود وادي قدرون ويصعد مرتقى الزيتون باكياً –لابد هنا من أن نفتكر في قصة آلام يسوع. ثم يعاد الكاهنان صادوق وأبياتار مع تابوت عهد الله إلى أورشليم. فيرسل داود إلى أورشليم صديقه حوشاي كذلك، لكي يتسلل إلى حلقة المستشارين حول أبشالوم فيبطل نفوذ أحيتوفل المنقلب (15: 23-37). الشخصان اللذان يلاقيهما داود في طريق هروبه نموذجان للإنقسام الموجود في الشعب، صيبا خادم مفيبوشث حفيد شاول وقهرمان جميع أملاك شاول الوراثية، يمشي مع داود ويقدم له الهدايا ( 16 : 1-4).أما شمعي وهو من عشيرة شاول فيرجم الملك وحاشيته بالحجارة وهو يلعن ويشتم. ولكن داود يرفض أن يقابل اللعنات المخيفة بعنف (16: 5-14).
ما في باقي الفصل 16 وفي الفصل 17 يعود بنا إلى أورشليم. ونسمع مبارزة كلامية بين مستشاري أبشالوم أحيتوفل وحوشاي. فأولاً يسجّل أحيتوفل إصابة: يتبع أبشالوم نصيحته فيضاجع سراري أبيه علناً- فيتم قول ناتان(2صم 12: 11). ولكن نصيحته الثانية بمطاردة داود حالاً يخفق أمام نصيحة حوشاي. بسفاسف ملبسة بفن ( 2صم17 : 13 " وأن انصرف إلى مدينة، يحمل كل إسرائل إلى تلك المدينة حبالاً ونجرها إلى الوادي، حتى لا يبقى هناك ولا حصاة") يحصل هذا الأخير على أن هجوماً مباشراً يؤجل فتترك لداود مهلة نافعة لإعادة تنظيم جنوده. فيستاء أحيتوفل من هذه الدرجة من الحماقة فيفقد كل أمل. يذهب إلى بيته ويخنق نفسه (17 : 23) .
وفي الأثناء لقي داود ملجأ في محنائم في عبر الأردن. كانت محنائم في منطقة أنصار شاول (انظر2صم 2 : 8-9)، إلا أن الموضع متعلق أيضاً بالروايات القديمة حول المواجهة بين يعقوب وعيسو (تك 32-33). والأردن بكونه نهراً حدودياً بين البرية وبين أرض الميعاد ينعش ذكريات شتى كذلك. فيكتسب مكوث الملك داود مع جماعته في عبر الأردن ملامح ترحلات إسرائيل في القديم الغابر.
مشهد 17: 15-21 عن البشيرين اللذين تخبئهما امرأة في بئر لينفلتا من رجال أبشالوم يذكّر رواية الجاسوسين لدى راحاب (يش2) وعندما يأتي في منطقة عبر الأردن المعادية إلى حد ما إلى داود وجهاء يعطون له و لصحبه أثاثاً وبالأخص أشكالاً كثيرة من الطعام (17 : 27-29)، يفعلون ذلك بكلام يبدو كأنه يشير مباشرة إلى رحلة إسرائيل في البرية:"لأنهم قالوا: إن الشعب جائع، وقد تعب وعطش في البرية "(29)
يا بني يا بني أبشالوم....(2صم 18-19)
يتصادم الجيش الذي ذهب وراء أبشالوم مع الجنود الذين ظلوا أمناء لداود. يوصي داود ضباطه باستبقاء أبشالوم. إلا أن يوآب، قائد جيش داود، يتبع حكمة الحصيف: لايمكن تجنب مجزرة كبرى إلا بالتخلص من مدبر الثورة. على بغته تأتي فرصة فريدة عندما يقع أبشالوم ضحية لشعر رأسه الطويل المشهور: في غابات أفرائم حيث تشتد المعركة يتشابك شعر رأسه مع أغصان بلوطة فيبقى متعلقاً من الشجرة ( 18: 9 / قارن 14 : 25-26). أبشالوم يقتله يوآب فيتوقف القتال فيخبر داود بأن الثورة قد كبحت. ولكن هم داود هم واحد فقط:"هل سلم الفتى أبشالوم؟" (18 : 32). وعندما يسمع داود أن أبشالوم مات يتفطر قلبه حزناً :يا بني أبشالوم، يا بني أبشالوم، يا ليتني مت عوضاً منك، يا أبشالوم ابني يا ابني !"(19 :1). أعيدت السلطة إلى الوضع الأول، ثبت العرش، قتل الثائر ولكن أبا فقد ابنه. إنه يوآب مرة أخرى الذي يعيد الملك إلى صوابه (19: 2-9).
وفعلاً من باب الاستراتيجية تشتد الحاجة إلى تحرك سريع. في أورشليم ما زال يوجد أنصار لداود، كمثل صادوق وأبياتار وحوشاي. فعليهم أن يتحركو. يجعل داود عماسيا، قائد جيش أبشالوم على رأس جيشه بدلاً من يوآب. يريد بهذا الفعل أن يربط عماسيا بنفسه، وأن ينكر يوآب على سفكه الكثير للدماء
(19 : 10-15). مرة أخرى يظهر داود نفسه ملكاً يريد السلام والمصالحة. يتصالح مع شمعي الذي كان قد عيره وشتمه جداً، ومع مفيبوشت الذي يتهم الأن خادمه صيبا بخيانة وسوء النية ( 19 : 16-31). فيعبر داود الأردن كرجل السلام ويعود إلى أورشليم، لكن في الجلجال، عند معبر الأردن، يتبين مرة أخرى النزاع بين اليهوذيين الجنوبيين وبين الأسباط الشمالية. يتجادلون في السؤال من منهم أكثر إخلاصاً ووفاءاً تجاه الملك (19 :32-44). هذا االنزاع يؤدي في خاتمة المطاف إلى الإنفصال النهائي الدائم بين الشمال والجنوب بعد وفاة سليمان .
إنسانية داود المدهشة
في القصص حول أبشالوم نلاقي مرتين خلافاً بين ما ينتظر من داود بصفته ملكاً ورجلاً سياسياً وبين ما يشعره كإنسان وكأب. هل يجوز لملك أن يظهر مشاعره؟ أكان يحل له أن يبين اشتياقه إلى أبشالوم قاتل الأخ المنفي؟ وحزنه على موت أبشالوم؟ ذلك الإبن الذي قتل أمنون، والذي خدع أباه وحاول الاعتداء علية: إنه يظل أبشالوم، ولده الحبيب أبشالوم. فينقلب الملك الكبير العظيم رجلاً صغيراً باكياً يحتاج إلى كل قدرة يوآب على الإقناع فيروض نفسه على قبول الواقع .
ردود فعل داود في كثير من المرات إنسانية جداً ومفاجئة ومدهشة أيضاً. مما يلاحظ كم يتغلب الوجه الانساني على الوجه السلطوي صورة داود الكتابية. لم يصنع الرواة الكتابية من داود إنساناً فائقاً "سوبرمان" داود رجل على حسب قلب الله بقدر ما يفسح في قلبه هو مجالاً للصداقة والحزن، مجالاً للندامة والغفران، مجالاً للثقة بالناس وبالله. عندما ينقاد ملك للعطش إلى السلطة يركض إلى هلاكه لم تكن ساعة قط كان فيها داود أكثر قوة وقدرة من ساعة مجابهته العملاق جليات وفي يده بضعة حصيات وكثير من التوكل على الله. ولم تكن ساعة كان فيها داود أكثر ضعفاً وعجزاً من ساعة أمره بالتخلص من أوريا وساعة موت أبشالوم. في قصة أبشالوم داود صغير في الإنتصار لكنه كبير عظيم في حزنه على ابنه .
مما يلاحظ أن داود أكثر من مرة يخرق العرف العام والأخلاق الجارية في أيامه. إنه يفتش عن مخرج من الحلقة المميته للتجاوب العنف بالعنف. صداقته ليوناتان أقوى من التنافس على الملكية. وفي قصة بتشابع يعترف بخطيئته و يتخذ العواقب على عاتقه بصورة واقعية . إنه يهمل قانون الثأر و يتصالح مع ابنه أبشالوم حزنه على ابنه الفقيد أعمق من الفرح العقيم لانتصار عسكري . موقف داود هذا في الحياة موقف أصيل و مشيحي . لا عجب أن كلام يوآب الموبخ داود على أنه يحب أعداءه (2صم 19 : 7) يتناغم و يتساجع مع مطلب يسوع المطلق في الخطبة على الجبل (متى 5 : 44 ).
ملكية داود وفنه في شؤون الدولة تابعة للماضي الغابر. أما إنسانيته الأصيلة التي جعلته رجلاً على حسب قلب الله فهي تابعة لكل الأزمنة. إن قصة داود لمرآة ممكن أن ننظرفيها كل مرة من جديد إلى أنفسنا.
20) ذنب داود و استيعابه للذنب
صار ملكوت داود ثابتاً وطيداً. إنه ركّز مملكة إسرائيل و يهوذا الحديثة. أعطاها عاصمة جديدة أورشليم. ضرب الفلسطيين ضربة قاضية. نقل إلى أورشليم تابوت العهد وهو رمز سكنى الله في وسط شعبه. فوعده النبي ناثان ببركة الله على سُلالته. فيبدو داود كأنه الملك المشيحي المثالي: مختاراً وممسوحاً ومثبَّتاً بيد النبي ، غير ِمطماع في التسلُّط ، خادماً متواضعاً لإلهه و لشعبه. ولكن تأتي الساعة التي فيها داود أيضاً يستسلم لتجربة السلطة .
خطيئة داود
أخذ داود يشنّ حروباً ليوسِّع سلطته. في 2 صم8 جدْول من انتصاراته: إنه يضرب الفلسطيين، والموآبيين، وهَدَد عازر من صوبة، والآراميين، والأدوميين. جميع هذه الشعوب يجعلها دافعة الجزية. وفي الفصل العاشر والفصول التالية يشن الحرب على عمّون. فهكذا تحصل "مملكة داود" التي سوف يُخلَِّفها وراءه لإبنه سليمان شيئاً فشيئاً على شكلها : مملكة تمتد من النهر إلى أرض الفلسطيين وإلى حدود مصر"
(1مل5 :1). وفي وسط هذه الأخبار الحربية نقرأ الرواية المشهورة ، رواية داود وبتشابع وأوربا. ولما كان مدار السنة في وقت خروج الملوك إلى الحرب، أرسل داود يوآب وضبّاطه معه وكل إسرائيل، فأهلكوا بني عمّون وحاصروا ربّة، و أما داود فبقي في أورشليم. وكان عند المساء أن داود قام عن سريره وتمشي على سطح بيت الملك " (2 صم 11: 1-2). يظهر كأن داود صار سلطاناً موسِراً مستمتِعاً : يُكلَّف ضابطه بشغل الحرب ويبقى هو في البيت. يريد أن يتمتع بقصره وبالحياة. بعد القيلولة يقع نظره على بتشابع الجميلة امرأة الحثي أوريا وهو جندي في جيش الملك. إنه يريد هذه المرأة فيأخذها: لأن مشيئة الملك قانون. تجلب بتشابع، فيضاجعها الملك ، فتصير حاملاً .
ثم يلي تراكم من الشر. يستدعي داود أوريا إلى أورشليم و يحاول أن يدفعه إلى أن يذهب ينام عند امرأته، لأنه يريد أن يُنسَب المولود إلى أوريا لا إلى الملك . ولكن أوريا يرفض هو متمسك بالفرائض ومتضامن مع أصحابه الجنود في ميدان القتال : " إن التابوت وإسرائل و يهوذا مقيمون في الأكواخ، ويوآب سيدي وضبّاط سيدي مُعَسكِرون على وجه الحقول ، وأنا أدخل بيتي وآكل وأشرب وأضاجع امرأتي؟ لا، وحياتك وحياة نفسك، إني لا أفعل هذا " ( 2صم 11:11). نلاحظ الفرق الصارخ بين الوفاء والتضامُن من قِبَل هذا الجندي المرتَزَق الأجنبي وبين استغلال ملك إسرائيل لسلطته! فالملك مشدوه مرتبك جداً بالأمر يلتجيء إلى الوسائل الكبرى: الإغتيال المباشر. ومن النقط المأساوية في القصة أن أوريا نفسه يحمل المكتوب الذي فيه أمضي على حكمه بالإعدام ...فيُجعَل الضابط يوآب شريكاً في الجريمة: عليه أن يقوم ببلاهة استراتيجية ويُضحّي بقسم من جنوده ، بأن يجعلهم يتقاتلون بقرب متزايد للسور. فيحضّر يوآب الرسول الذي سوف يأتي داود بتقرير ما حدث : قد يغضب الملك من الحماقة الاستراتيجية ومشيراً إلى ما روي في قض 9: 50-54 حيث قاتل أبيملك قريباً جداً من سور المدينة فوقع على رأسه حجر رحى. فيَحِفِّز يوآب الرسول على أن يذَّخر أهم خبر و يقوله في الآخر: إن عبدك ارويا الحثي أيضاُ قد مات" (21و24) . رد فعل داود متهكّم للغاية: " لا يسؤ ذلك في عينيك، لأن السيف يأكل هذا وذاك " (25). لقد حقق داود هدفَه. فالأن يتمكن من إدخال بتشابع إلى بيته، بعد فترة الحداد، وأن يعترف بالولد ولدَه . والقاريء يفتكر: أجل، هذا هو ما يجري عادة مع ملك متسلّط مستبدّ: إنه قادر على كل شيء، وكل شيء يُسمَح له، إنه يعتبر مَواليَه مماليك له ويفعل ما يشاء. ولكن هناك يهوه ونبيَّه بعدُ:"وساء ما صنعه داود في عيني يهوه. فأرسل يهوه ناتان إلى داود" (11 : 27-12 : 1) .
مثل ناتان
يدخل ناتان قصر داود بدون مقدمات. لايخاف النبي الحقيقي شيئاً أو أحداً، حتى الملك يصارحه بجرأة. إلا أنه يستعمل أسلوباً ملتوياً: يروي قصته المشهورة عن الرجل الغني والرجل الفقير اللذين كانا يقيمان في نفس المدينة. كان للغني غنم بكثرة. وكانت للفقير نعجة واحدة فقط يعتني بها جداً. فيأخذ الغني نعجة الفقير ليقدِّمها لضيوفه. الملك داود الذي كان يصغي إلى القصة بانتباه بالغ يردّ باستنكار شديد:"حي يهوه! إن الرجل الذي صنع هذا يستوجب الموت. يردّ عوض النعجة أربعاً جزاء أنه فعل هذا الأمر ولم يشفق" ( 12 : 5-6 ). داود الذي بنفسه وطأ التوراة وطأةً باهظة، يبدو الآن حسن الإطلاع على تفاصيل التوراة. نقرأ في خر 21 : 37 : " إذا سرق رجلٌ ثوراً أو شاةً فذبحه أو باعه، فاليُعَوِّض بدلَ الثور خمسةً من القطيع وبدل الشاة أربعاً من الخراف". إلا أن داود لم يشعر بعد أن قصة ناتان تقصده هو. فيصارحه بها ناتان : " أنت هو الرجل" – ثم يُسهِب النبي عن الشكوى و الحكم من قبل الله ( 7-12). يتفتح بصر داود فيعترف حالاً بذنبه :" قد خطئت إلى يهوه " (13) .
أعطانا ناتان مثالاً مما هو" مثل". الكلمة العربية واسعة المعنى و متنوعة التطبيق.فالنأخذها بالمعنى التقني في علم التفسير :
أعطانا ناتان مثالاً ممتازاً عن المثل. وبين لنا بوضوح ما هو نبي. النبي هو قبل كل شيء آخر راءٍ، شخص ينظر إلى الناس وإلى تصرفاتهم بعيني الله ( قارن ما يقوله يهوه لصموئيل في 1 صم16 : 7 " ... لأن يهوه لا ينظر كما ينظر الإنسان، فإن الإنسان إنما ينظر إلى الظواهر، وأما يهوه فإنه ينظر إلى القلب"). لقد أبصر ناتان ببالغ الحِدّة لماذا وكيف صار داود ينحرف عن الطريق المضبوط. ثم النبي هو قائل، شخص حاذق في أن يلفظ الكلمة المناسبة في المكان المناسب. وأخيراً، النبي هو مُرْءٍ، شخص يجعل آخرين يبصرون، إنه ببراعةٍ يفتح عيني داود و يجعله يبصر ما في تصرُّفه من سوء و هلاك .
هل يهوه إله يقاصص
اتَّهم ناتان داود وهدَّده بقصاص. إنه صنع ذلك بمقتضى مبدأ المعاملة بالمثل. هل استخدم داود السيف؟ فلا يفارق السيف بيته للأبد. أخذ داود امرأة قريبه؟ فتؤخذ نساءْ داود منه وتسلَمن إلى قريبه
(12: 9-12). هذا ما يصنعه أنبياء إسرائيل دائماً: يفضحون الظلم ويهدّدون بقصاص. ولكنهم يصنعون ذلك خاصةً مستهدفين حمل مستمعيهم على التفكير وعلى التوبة. فإذا تابو فلا تنفَّذ العقوبة. نتذكَّر قصة يونان المشهورة. يهدِّد النبي نينوى بالهلاك في خلال أربعين يوماً. لكن أهل نينوى يتوبون، فلا ينفِّذ الله القضاء. يسوء ذلك يونان جداً. إلا أنه ليس نبياً مثالياً، إنه بذل مجهوداته ليتخلص من الرسالة التي كلَّفه بها الله. فيفسر له الله بطول الأناة أن نيته كانت من الأول أن يستبقي نينوى ( يونان 3-4).
لم يلبث تهديد ناتان حتى يأتي بنتيجة: يتوب داود ويعترف بذنبه. فحالاً يلفظ له غفران الله ويخفَّف له القصاص:" إن يهوه أيضاً قد نقل خطيئتك عنك، فلا تموت. ولكن، إذ إنك بهذا الأمر أهَنتَ يهوه إهانةً شديدة، فالإبن الذي يولد لك يموت موتاً "(13-14) .
هذا على الضد من ميلنا ومزاجنا الفطري. هل إله الكتاب المقدس إذن إله يقاصص؟ فعلاً، تظهر الرواية كأنها تعبّر عن هذا الموقف، وفي الوهلة الأولى يرد داود رداً على هذا الموقف. عندما يمرض الطفل، يبتديء داود يصلّي ويصوم صوماً صارماً وينام مضطجعاً على الأرض: إنه يحاول أن يلطِّف الله. ولكن في هذه القصة البدائية الخشنة على ما يبدو يوجد شيء أعمق: الصورة السلبية للإله المقاصِص تُطهِّر وتُزكِّى وتلغى. هذا يتبين خصوصاً في رد فعل داود المفاجيء بعد وفاة الطفل. تماماً بخلاف ما تنتظر منه حاشيته يتوقف عن الصوم ويستحم ويتطيب ويغير ثيابه ويدخل بيت يهوه ليصلي... وأخيراً يذهب يعزي بتشابع.
مَثَل هذه القصة كمثل قصة نقل التابوت إلى أورشليم _(2صم6): قصة لها بالأصل ملامح بدائية خشنة ( في 2صم6: مَحْرَم التابوت الذي "لا يُمَس"، وهنا: صورة إله يقاصص) حصلت في النهاية بفضل السياق على معنى جديد. في الرواية تحرُّك وتطوُّر على صعيد صورة الله أيضاً .
فمن هذه الناحية نستطيع أن نقول إن الرواية إنما تروي عملية إلغاء تحويل الفكر السلبي إلى الله. تبدأ الرواية فعلاً لدى صورة الإله المقاصص، إلا أنها تروي التطهُّر. بتدخُّل ناتان يشعر داود بذنبه. ففي الأول يحاول أن "يعوذ بالله" من المصيبة، و لكنه في آخر الأمر يجد طريقاً إلى قبول ذنبه. بعد وفاة طفله أصبح واضحاً أن "التحويل السلبي" قد تفوَّق عليه. فداود باعترافه بذنبه وبقبول ذنبه وجد نفسه واقفاً في علاقة جديدة بالله ويرى مستقبلاً جديداً ينفتح أمامه : بتشابع تلد ابناً، ويهوه يحب الولد فيُسمَّى "يديديا" ("حبيب ياه").
لا يمكن الاستمرار على هذا الدرب
مع ذلك، ما زالت القصة مشكِلة على القاريء المعاصر: طفلٌ بريء يموت لأن داود خطىء. ولكن علينا أن نتذكر أن في أيام داود لم يكن الإنسان الفرد في مركز الإهتمام، بل الآل و العشيرة. كانوا يحسون بالعشيرة كائناُ واحداً: إذا أُصيبَ أحد من عشيرتك فأنت مصاب. ثم، أمر وفاة الطفل في الكتاب المقدس رمزٌ قوي يقول إن ما بدأ به داود لا يمكن أن يستمر. سلوكه لا مستقبل له: البكر يموت كما أن الأبكار في مصر يموتون. في تعبير حضارتنا نستطيع التمييز التالي: على صعيد الأحداث مات طفل داود الأول نتيجة مرض ما مثلاً، لا نتيجة ذنب داود ولا نتيجة تدخل إله مُقاصِص. لكن على صعيد القصة الكتابية نتعلم منها أن الشر لا مستقبل إنساني له .
أهم رسالة في القصة واقعة في طريقة وصول داود إلى الشعور بالذنب وطريقة معاملته له. بعون من ناتان يرى غلطة سلوكه. يشعر بأنه "مستوجب" الموت لأنه قتل أوريا. و يشعر بأنه بذلك خطىء إلى الله. يعترف بذنبه و يأخذ المسؤولية عنه على عاتقه. من فعل هكذا، يمكنه أن يعرف نفسه مقبولاً من الله: ينال غفراناً ، ينال فرصة جديدة .
18) داود يرقص امام تابوت العهد
بعدما مسح داود ملكا على يهوذا واسرائيل، فعل ثلاثة افعال هامة لتثبيت ملكيته. يفتح داود اورشليم ويجعلها العاصمة السياسية للمملكة الجديدة (2 صم 6:5-16)، انه يكسر ظهر الفلسطيين نهائيا ويخلص اسرائيل من اخطر عدوه (17:5-25)، انه يجعل اورشليم مركز المملكة الديني ايضا بنقل تابوت العهد الى المدينة (6).
داود يفتح اورشليم (2 صم 6:5-16)
الى الان كان داود يقيم في حبرون وهي مدينة ذات تقليد ديني غني في سبط يهوذا. الى هناك اتى شيوخ الاسباط الشمالية ليمسحوا داود ملكا على كل اسرائيل. ولكن داود افتهم جيدا ان حبرون المدينة الجنوبية غير مقبولة كعاصمة للمملكة الجديدة. اذا اراد ان يحافظ على التوازن المتقلب بين الاثني عشر سبطا فعليه ان يختار عاصمة محايدة لا تنتمي الى أي سبط اسرائيلي ويكون موقعها مركزيا. فكانت اورشليم الكنعانية بعدها الواقعة في المنطقة الحيادية بين يهوذا وبين الاسباط الشمالية مدينة صالحة من كل النواحي.
كان اليبوسيون المقيمون في اورشليم يحسبون مدينتهم حصنا منيعا فيستهزئون من داود وجيشه الصغير : "حتى العميان والعرج يصدونك !" (6). قال داود : "كل من اراد ان يضرب اليبوسي، فليصعد من القناة" (8). نستنتج من هذا القول انه فتح المدينة بحيلة. يرجح ان "القناة" هي الساقية تحت الارض التي كانت توصل ماء عين جيحون الواقعة خارج سور المدينة في وادي قدرون الى بركة ماء داخل المدينة (بقايا من امداد الماء المحسن في ايام الملك حزقيا – 2 مل 20:20 – موجودة حتى اليوم). نتصور ان داود ورجاله انسلوا الى داخل المدينة عن طريق هذه القناة ووثبوا بغتة على اليبوسيين. الجملة الفريدة "العرج والعميان الذين تبغضهم نفس داود" قد تقصد ان تكون جوابا تهكميا على ملاحظة اليبوسيين المستهزئة. ان موقف الاحترام الذي يقفه داود من مفيبوشث السقيم الرجلين (2 صم 9) يجعلنا لا ندرك القول ادراكا حرفيا. والملاحظة التالية "لذلك يقولون : لا يدخل البيت اعمى ولا اعرج" نضعها على حساب خطاط لاحق لقي في هذه القصة تبريرا لفريضة أح 18:21 القائلة بان من له نقص جسدي لا يصبح كاهنا. لان "البيت" هنا يقصد هيكل اورشليم طبعا.
بنى داود في اورشليم قصرا بمساعدة حيرام ملك صور. هذا بيان ان ملكية داود كانت تتمتع باعتراف دولي.
داود يقضي على الفلسطيين (2 صم 17:5-25)
في ايام شاول كان الفلسطيون السادة الواقعيين في البلاد. فداود الذي كان خلال "تدريبه العسكري" عند العدو (1 صم 27) قد تعلم اسرار تسليح الفلسطيين وتكتيكهم، يتخلص منهم بمعركتين. ويلح الراوي في ان داود لا يتحرك الا بامر من يهوه : قبل ان يذهب الى القتال يسأل يهوه، كما صنع قبل ذلك اكثر من مرة (1 صم 23: 2 و4 و9-12). كان هذا السؤال يحدث عن طريق "قرعة" بواسطة "الايفوذ" وهو على الارجح كيس يحمله الكاهن وفيه حجرتان تعني واحدة "نعم" والثانية "لا".
يدفع داود الفلسطيين نهائيا الى منطقة الساحل، منطقة غزة. من الان فصاعدا لا يتمكنون من اخذ اية مبادرة سياسية او عسكرية. كان تفوق داود كذا حتى انه اضاف الى جيشه للمرتزقة جنودا فلسطيين تحت قيادة اتاي الجتي ( = مواطن من مدينة جت وهي احدى مدن الساحل الفلسطينة (انظر 2 صم 18:15-22 / 2:18).
داود ينقل تابوت العهد الى اورشليم (2 صم 6)
لا يكفي ان تكون اورشليم عاصمة سياسية للمملكة، يجب ان تكون عاصمتها الدينية ايضا. لذلك يريد ان ينقل داود التابوت وهو مقدس يهوه المرافق لهم خلال الرحلة في البرية، نقلا الى اورشليم. قصة النقل هذه تواصل قصص التابوت ، في 1 صم 6:4 : في نهاية هذه القصص حصل التابوت على موضع في قرية يآريم. والالن، والفلسطيون مغلوبون، ما من شيء يحول دون نقل التابوت. في هذه القصة ايضا كمثل في قصص 1 صم 4-6 ملامح بدائية سحرية. خاصة في الاية 7 : تجاسر عزا على لمس التابوت، صعقه الله ميتا في مكانه. من الناحية التاريخية ربما كان ذلك حادثة : وقع عزا تحت دواليب العجلة ومات ؟ ففسروا هذه الحادثة بالاصل في سياق رأي بدائي مخيف في الله : انتهك محرم فيعاقب ذلك حالا بلا رحمة. وحين وضعت هذه القصة في سلسلة داود كان وقت تلك الصورة البدائية لله قد فات. فحصلت القصة مع ملامحها السحرية في سياقها الجديد على معنى اعمق نحاول الان توضيحه.
الله لا يقبل ان يوضع على عجلة
يريد داود ان يجعل لله المكان المركزي في حياته وفي شعبه، في وسط الاثني عشر سبطا. يتجلى من رواية الخروج ان يهوه اله يريد ان يسكن بين الناس. فيقصد داود ان يعبر عن ايمانه وعن ثقته بهذا الاله بنقل تابوت العهد نقلا احتفاليا الى اورئليم عاصمته الجديدة. انها حفلة عظيمة فاخرة فرحة تعكر صفوها الحادثة المروعة عند بيدر ناكون حيث "اشتد غضب يهوه على عزا" (7).
يتوضح المعنى العميق عندما ننتبه لبعض التفاصيل في القصة. هناك بين المحاولة الاولى والمحاولة الثانية لنقل التابوت الى اورشليم عدد من الفوارق الهامة:
1) في الاول تنطلق المبادرة من داود وحده. لا نقرأ هنا كمثل في القصص السابقة ان "يهوه كان معه" (10:5) او انه "فعل على حسب ما امره يهوه" (25:5). ان داود لينفذ مشاريعه هو فممكن الشك في ما اذا كانت هي منسجمة مع مشروع الله تماما. اما عند المحاولة الثانية فيفسح مجال لمبادرة يهوه : لا يتجاسر داود على تلك الا بعدما سنع ان "يهوه بارك عوبيد ادوم وكل بيته" حيث بقي التابوت بعد المصيبة (11-12).
2) تبدو بداية القصة كان عملية عسكرية تجري اذ ان داود ينطلق الى الطريق بكثير من المظاهر الطنانة – يذهب مع المنتخبين في اسرائيل : ثلاثين الف، تماما عدد الذين سقطوا انذاك حين استخدم التابوت سلاحا سريا ضد الفلسطيين. اما عند المحاولة الثانية فلا تعود الرحلة مهرجانا عسكريا بل هي زياح ليتورجي. لا تخطى الخطوة السابعة ببساطة بعد الست الخطوات. انما كمثلما يعملون ستة ايام ويتوقفون في اليوم السابع، هكذا الخطوة السابعة لله فيقربون قربانا (13).
3) عند المحاولة الاولى "جعلوا تابوت الله على عجلة جديدة" (3)، اما بعد المصيبة فـ "حملوا تابوت يهوه بالايدي" (13) – وهذا حسب الاصول، لانه هكذا عند سيرهم في البرية (خر 13:25 – 15 / 4:37 – 5).
ما معنى "جعل الله على العجلة "مقابل حمل الله على الايدي" ؟؟ انه يعني انك تعتبر الله شيئا ميتا، عبارة واقفة خارج الحياة. هل هو اله لا يخرج من الخزانة الا للمناسبات الكبرى؟ هناك ناس يطلبون حفلة زواج كنسية بحضور الاكليروس كافة "لتزيد الافراح" (اية افراح؟). بعد انتصار جزائر فلكلاندزارادت الحكومة البريطانية حفلة دينية في كاتدرائية وستمنستر. اوكان داود بالاول يريد حفلة فاخرة لمجده هو ؟ واراد ان يبني هيكلا في اورشليم لتثبيت سياسته ؟ سوف نقرأ انتقاد النبي على مشاريعه المعمارية.
ولكن الله لا يقبل ان يشده الناس امام عربتهم. لا يقبل ان يوضع على عجلة، انه ينزل منها – في قصتنا حرفيا. يريد الله ان يكون واقعا حيا في وسط الناس. يريد ان يحمل على الايدي. انه اله حي يرفض ان يحبس في صيغ متخشبة. "انت جالس في تسابيح اسرائيل" (مز 4:22). انه حاضر في الاشياء الاعتتيادية، في ما نصنعه بايدينا كل يوم. انه اله غير حصين قابل للانجراح يستودع نفسه في ايدي البشر. ومن اراد ان يخدم هذا الاله فلابد من ان يجعل نفسه قابلا للانجراح صغيرا كمثل داود في القسم الثاني من القصة : يخلع التاج ولباس البلاط ويصبح واحدا من الشعب (14)، يتواضع ويتصاغر وهو فرحان بين الاماء (22).
عزا وميكال وداود : ثلاثة مواقف اساسية مختلفة
لكل من الشخصيات الثلاثة الرئيسية في القصة معنى رمزي خاص. نكتشف فيها ثلاثة مواقف مختلفة في الحياة، ثلاثة اشكال من الصلاة والعبادة نجدها ايضا في انفسنا.
عزا "مد يده الى تابوت الله فامسكه … فمات هناك عند تابوت الله" (6-7). فكما ان التابوت علامة حضور الله، هكذا قصور اليد الكهنوتية عن العون هو علامة عجز الانسان عن التلاعب بالله. يحاول عزا ان قبض على ما لا يمكن ان يقبله الا كهدية. انه يمس ما لا يغار عليه. في حياة الانسان من الخبرات والساعات والذكريات ما لا يمس، "ارض مقدسة". ومن كان يسخر منها او يغصبها "مد يده" الى القدس. في حياة المؤمن اشياء لا تمس. الانسان الذي لا يصلي ابدا ينتهي انسانا سطحيا. المسيحي الذي يدفع الصغار جانبا ويستغل الفقراء ويفرض نفسه بالعنف، هو "يمسك تابوت يهوه".
ميكال زوجة داود لا تشترك في الحفلة. تبقى داخل القصر و "تطل من الشباك". تخبئ نفسها. لا تجعل نفسها عرضة للجرح. انها تدرّع نفسها. تحتقر داود وتسخر من ايمانه (16). ميكال مغرورة. حريصة. لها فكرة مختلفة تماما عن الملكية. في رايها على الملك ان يبقى مباعدا فاترا متعجرفا ويصون منزلته الرفيعة في كل وقت. فبدلا من ان يضحي بنفسه في سبيل الشعب يجب ان يضحي بالشعب في سبيل مجده الشخصي. ولكن، ماذا ننتظر من ذلك الراعي الشريد غير هذا ؟؟ (20). ليس من باب الصدفة ان ميكال تدعى "ابنة شاول" حتى ثلاث مرات. انها بنت جديرة بابيها. تنتهي القصة بالقول : "ولم تلد مكيال ابنة شاول ولدا الى يوم ماتت" (23). هذه ايضا نقطة من صورة الاله المقاصص البدائية اكتسبت في القصة معنى اعمق. كون ميكال لا اولاد لها يعني ان سلوكها عقيم وان موقفها في الحياة لا مستقبل له. تمثل ميكال في القصة موقف الاعتراض على الله الذي يريد ان يسكن في وسط شعبه مستعرضاً . عندما اعزل نفسي متلددا متمسكا برأيي، عندما طقت الصلاة لانها ترقيني في تقدير الاخرين وتقدير النفس، عندما ارد ساخرا محتقرا على تعابير الاخرين عن ايمانهم الصادق، عندما اتباخل على ما عندي ولا الد حياة، عندما اكون عقيما، حينئذ اكون مثل ميكال.
يا لبعد الفارق في موقف داود! "انما رقصت امام وجه يهوه. هو اقامني رئيسا على الشعب" (21). هذا الملك كاخ في وسط شعبه. انه يخلع ثيابه الملكية ويرقص بكل قوته "متمنطقا بافود من كتان فقط". "افود" يدل على ثوب ليتورجي قصير. الصلاة والايمان نوع من تعرية الذات : "يا يهوه قد سبرتني فعرفتني"
(مز 139). وداود مستعد ليتذلل اكثر (22). فيه يتبين ملكا مشيحيا حقيقيا يشير الى يسوع ابن داود الذي غسل اقدام تلاميذه، وكان يعاشر العشارين والخاطئين فيسخر به على الصليب. ينال داود بركة فيعطي هذه البركة (البركة مهمة في الفصل : 11 و12 و18 و20). والدين عنده كخدمة الله هو خدمة الناس، خدمة الشعب ايضا. تقريب المحرقات والذبائح السلامية ينتهي بكل بساطة الى توزيع عام للاطعمة (17-19). الالتزام العهدي بالله يعني تضامنا مع الناس فكما ان الله يريد ان يسكن في وسط الناس عرضة للانجراح، كذلك يريد داود ان يكون ملكا خدوما عرضة للانجراح في وسط شعبه.
17) داود يصبح ملكا
ينتهي 1 صم بقصة موت شاول. في بدء 2 صم يوصف كيف كان رد فعل داود على موت شاول، وكيف صار ملكا، على سبطه يهوذا اولا، ثم بعد بضع سنين على اسباط اسرائيل الشمالية التي بقيت بعد موت شاول على حافة الفوضى. مرارا وتكرارا تلح هذه القصص في ان داود لم يكن له يد ابداً في خراب بيت شاول وانه اذن لم يغتصب الملكية. قد نرى فيه محاولة لجعل ملكية داود امرا سياسيا شرعيا. ولكنه دون اي يشك عنصر مهم في لاهوت القصص الداودية : لم يتول داود الملكية بنفسه، انما اختاره يهوه.
(كيف سقطت الابطال ؟) (2 صم 1)
يصل الى داود خبر موت شاول وابنه يوناثان من رسول يزعم انه لقيه في ساحة القتال خاسرا يؤوساً، وانه على طلبه قتله بنفسه. فيظهر التاج والسوار، شارتي الملك، برهانا لصدق كلامه. ان القارئ الذي يعلم جيدا من الفصل السابق حقيقة ميتة شاول يستنتج ان الرجل ليس الا نهاب جثث حقير يترقب مكافأة كبيرة على "بشراه". ولكن يحدث ما لا ينتظره : يمزق داود ثيابه ويصوم الى المساء. هو والرجال الذين معه ينوحون ويبكون على شاول ويوناثان ابنه وعلى اسرائيل شعب يهوه. ثم، عندما يتبين ان الرسول عماليقي – وتعلمنا من الكتاب المقدس من هم "العمالقة" : استغلاليون مصاصو دم الضعفاء، أنظر 17:25 – 19 – ينال اجره المستحق. دمه على رأسه. ذاك الذي زعم انه قتل مشيح يهوه يقتل هو نفسه.
ثم يرثو داود شاول ويوناثان رثاءه المشهور. احد النصوص القديمة جدا في الكتاب المقدس. يذكر مؤلف القصة المصدر الذي اقتبسه منه : "قصيدة القوس" مكتوبة في "سفر المستقيم" (2صم 18:1).
"سفر المستقيم" هذا يذكر في يش 13:10 أيضا مصدرا لما يسمى "اعجوبة الشمس" ليشوع. المرجح انه كان مجموعة من النصوص الشعرية من عصر الدخول وبداية الملكية فقدت مع الاسف الشديد.
"كيف سقطت الابطال ؟". ترد هذه الردة في المرثاة ثلاث مرات : في البدء، في الوسط، في النهاية (19 و25 و27). بها تقسم المرثاة الى مقطوعتين. المقطوعة الاولى تطوقها اشارتان الى اغاني النساء.
"لئلا تفرح بنات الفلسطيين وتبتهج بنات القلف" (20) – كما غنت آنذاك نساء اسرائيل من اجل انتصار داود على الفلسطيين (1صم 7:18). غناء يتذكره الفلسطيون جيدا جداً! (1صم 12:21 / 5:29). "يا بنات اسرائيل، ابكين على شاول" (24). في هذه المقطوعة الاولى ينوح داود على سقوط الاب والابن معا في القتال : شاول مع ترسه الملطخ، ويوناثان مع قوسه (هل لهذا السبب تسمى المرثاة "قصيدة القوس في
18 ؟). "شاول ويوناثان، محبوبان عزيزان، في الحياة وفي الممات لم يفترقا" (23). في المقطوعة الثانية يركز الانتباه على يوناثان وحده، لا على مميزاته في القتال بل على حبه لداود : "قد ضاق صدري عليك ، يا اخي يوناثان لقد كنت عزيزاً عليّ جداً وكان حبك عندي اعجب من حب النساء" (26). هذه الجملة جعلت البعض يتكلمون عن وجود علاقة حب للمجانس بين داود ويوناثان. لكنه من المستبعد للغاية ان هذه الفكرة كانت في ذهن المؤلفين الكتابيين. انه هنا الحب والوفاء النجيبان المستبسلان اللذان اداهما يوناثان لداود في قصة 1 صم 20 واللذان كانا اكثر من كل شيء اخر عونا لداود في طريقه الصعب الى الملكية المشيحية. كذا حب أمين وفي فعلا "أعجب" (26) من أي شكل آخر من العطف تذوقه داود.
داود وايشبوشث (2 صم 2)
يذهب داود مع عائلته ورجاله الى حبرون مدينة الاباءالقديمة في يهوذا ويقيم هناك. فيجتمع أهل يهوذا ويمسحون داود ملكا على سبطهم. وماذا عن سائر اسباط اسرائيل؟ قبل ان نتعلم كيف الاحوال السياسية هناك بعد موت شاول، نسمع خبرا قصيرا بل هاما عن يابيش في جلعاد. كانت يابيش المدينة التي حررها شاول انذاك (1 صم 11). واهل يابيش جاءوا واخذوا جثث شاول وابنائه من عند الفلسطيين ودفنوها مبجلين (1 صم 31). يابيش اذن مدينة لها علاقة خاصة بشاول وهي في هذا السياق صالحة جدا لتمثل كل اسرائيل. فيرسل داود رسلا الى يابيش ويمدحهم على ما صنعوه. "مباركون انتم لدى يهوه، لانكم صنعتم هذه المبرة الى سيدكم شاول ودفنتموه. والان ليصنع اليكم يهوه برا وامانة. وانا ايضا اصنع اليكم خيرا، لانكم عملتم هذا الامر. والان فلتتشدد ايديكم وكونوا ذوي بأس، لانه قد مات سيدكم شاول، ولكن بيت يهوذا مسحوني ملكا عليهم" (5-7). ان داود يقدم نفسه ملكا. ولكن بفعله بغاية الحشمة والخشوع : يهوه يأتي بالمكان الاول، ثم "سيدكم شاول"، واخيرا فقط هو نفسه.
وفي الاثناء اقام ابنير قائد جيش شاول ابن شاول ايشبوشث ملكا في محنائم، وهي مدينة عبر الاردن. اذن يبقى بيت شاول يملك مؤقتا على اسباط اسرائيل الاخرى. فتضرم الحرب بين بيت شاول وبيت داود يلعب فيها دورا رئيسيا قائدا الجيشين ابنير ويوآب. انهما يلتقيان عند جبعون ويقترح ابنير مبارزة بين اثني عشر رجلا من كل جيش. يوافق عليها يوآب. ولكن المبارزة تنتهي بالتعادل لان جميع المبارزين ماتوا. ثم يتفجر قتال فوضوي شديد تتفوق فيه جماعة يوآب. الا ان أخا ليوآب اسمه عسائيل يقتله ابنير بعدما حاول ان لا يقتله. في الاخير يقنع ابنير يوآب بان يمتنع عن المطاردة. تنتهي القصة بالخبر الملخص : "طالت الحرب بين بيت شاول وبيت داود. ولم يزل داود يتقوى. وبيت شاول يضعف" (1:3).
ابنير ويوآب
يظهر ضعف بيت شاول في ضعف الملك ايشبوشث الذي ليس الا العوبة بيد ابنير. ينشأ خلاف بين الملك وقائد الجيش في امر رصفة سرية من سراري شاول. لقد دخل ابنير عليها، وهذا فعل له مغزى سياسي. كان التقارب الى امراة من حرم المك الفقيد الراحل يعتبر محاولة للقبض عل السلطة، لان حرم الملك تنتقل عادة الى خليفته (2 صم 8:12 / 22:16). ابنير غضبان على كلام ايشبوشث في هذا الامر، ويعلن انه سيختار طرف داود. وفعلا يقدم ابنير خدماته لداود الذي يقبل على شرط ان يأتي ابنير بميكال. هنا ايضا نعثر على دور النساء السياسي في بيت الملك. ميكال بنت شاول صارت امراة داود واحبته حقيقة
(1 صم 18-19). ولكن بعد هروب داود اعطى شاول ابنته لواحد اسمه فلطيئيل (1 صم 44:25). فيريد داود ان تعود اليه الان ليثبت شرعية ملكيته في وجه انصار شاول. وبالفعل، يرسل ايشبوشث ميكال الى داود. ما تفتكر ميكال نفسها عن الامر يبدو غير مهم البتة. العاطفة الوحيدة في القصة تأتي من طرف فلطيئيل الذي يشيع امرأته بدموع : "فمضى بعلها معها، وهو يسير ويبكي وراءها، حتى بحوريم". ولكن ابنير يأمره دون تكلف بالعودة الى بيته (16).
ثم يناشد ابنير شيوخ اسرائيل ان يتبعوا داود، خاصة سبط بنيامين الذي منه شاول. فيأتي ابنير حبرون بتقرير المفاوضات، فيقيم داود مأدبة فاخرة اكراما له. ثم يصرف داود ابنير فيمضي بسلام. ولما يسمع يوآب ذلك بعدئذ يغضب جدا. هل يحسد يوآب ابنير ؟ ام يحتسبها سياسة غير حكيمة، كما يقول لداود (24-25)؟ يتبين من تابع القصة ان في الامر "أخذ الثأر". لقد قتل ابنير عسائيلفسينتقم يوآب لاخيه. يرسل رسلا وراء ابنير يسألونه ان يرجع الى حبرون. فيغتاله يوآب غدرا.
يستهجن داود هذا الفعل صراحة ويحمل يوآب كل المسؤولية. تشيع الجنازة الرسمية في حبرون. فيصنع داود الى ابنير ما صنعه الى الملك شاول : ينوح عليه ويرثوه بمرثاة ويصوم حتى المساء. مرة ثانية يوضح لنا ان داود لم يرد هلاك بيت شاول ولا يفرح به. ولكنه واضح ايضا ان داود لم يكبح تصرف عبيده العنيف بعد. يوآب وابيشاي ابني صروية : لا يقاويهما الملك مؤقتا.
مقتل ايشبوشث وداود ملك على جميع اسرائيل (2صم 4-5)
بعد موت ابنير يبقى ايشبوشث وحده قلقا غير محمي عرضة لدسائس حاشيته. فكان في خدمته رئيسا عصابة. بعنة وريكاب، يتآمران كيف يقتلان ملكهما. يتسللان الى بيته ويقتلانه وهو نائم. يقطعان رأسه ويأتيان به داود في حبرون. كمثل العماليقي المخبر بخبر موت شاول هما ايضا يحتسبان بمقابلة ترحاب ومكافأة ولكن امالهما تتخيب : "حي يهوه الذي افتدى نفسي من كل ضيق ! ان الذي اخبرني وقال لي : ان شاول قد مات، وهو يظن انه يبشرني بخير، قبضت عليه وقتلته في صقلاغ، وقد كان يستوجب جائزة البشرى. فما يكون بالاحرى لرجلين شريرين قتلا رجلا بارا في بيته على سريره ! افلا اطلب الان دمه من ايديكما وابيدكما من الارض"؟ (9:4-11). يقتل المجرمان ويوضع رأس ايشبوشث في قبر ابنير في حبرون. يجب ان يكون واضحا للجميع ان داود يشمئز من المكر والخداع. انه يظل يحترم شاول مشيح يهوه حتى بعد موته. يتجلى ذلك ايضا في موقفه تجاه مفيبوشث، ابن يوناثان المعوق الذي يقدم لنا عابراً في 4:4. فيروي في 2 صم 9 باسهاب ان داود يعيد الى مغيبوشث حقول شاول ويدعوه الى اورشليم يأكل على مائدة الملك "كواحد من ابناء الملك" (11:9).
لقد ذكر عابرا بجملة واحدة ان داود صار ملكا على يهوذا (4:2أ). ولكن يروي باسهاب ان جميع الشيوخ لسائر اسباط اسرائيل كلها يأتون الى حبرون لمقابلة داود. فيقطع معهم داود عهدا امام وجه يهوه فيمسحون داود ملكا على اسرائيل (1:5-3). فيختم هذا العرض بملاحظة اخبارية : "كان داود ابن ثلاثين سنة يوم ملك، وملك اربعين سنة. ملك في حبرون على يهوذا سبع سنين وستة أشهر، وملك في اورشليم ثلاثا وثلاثين سنة على كل اسرائيل ويهوذا" (4:5-5). كيف اثبت داود ملكه ؟ نقرأه في الفصول التالية لسفر صموئيل الثاني.
16) أمد الملك شاول
رحابة صدر داود واستعداده للصفح لم يأتيا بمصالحة دائمة مع شاول. القصتان في داود الذي أبقى على شاول تنتهيان بالذكر ان الندين يسلك كل منهما طريقه. "ثم انصرف داود في سبيله، ورجع شاول الى مكانه" (25:26، أنظر ايضا 23:24). الفصول الاتية تشكل نقطة انحطاط لكل من شاول وداود. مصير داود سوف يتحول الى احسن. اما شاول فسيهلك في الحرب ضد الفلسطيين.
يرتد داود الى العدو (1صم 1:27-2:28)
يطلب داود حماية عند الفلسطيين وهم اعداء اسرائيل اللداد. يلتحق مع جيشه الصغير باكيش ملك جت احدى المدن الفلسطية ويقدم له خدماته. قد حاول في السابق نفس الشيء هو وحده، لكن عندما عرفته حاشية اكيش تظاهر بالجنون فطردوه (أنظر 1صم 11:21-16). اما هذه المرة فيرحبون بداود ورجاله فيستقرون مع عوائلهم في المنطقة الفلسطية. ينتج منه ان داود انتهى من الخوف من شاول : لا يعود هذا يطارد المرتد. هذا من جهة. ولكن من جهة أخرى داود في خطر ان يرتبك في حرب الفلسطيين ضد شعبه.
بحيل ومقدار كبير من الحظ يتملص من الخيانة العظمى. يطلب مكان اقامة بعيدا عن مقر اكيش. ومن هناك يقوم بغزوات على قبائل مجاورة ومعادية ليهوذا، ويتظاهر امام اكيش انه ينجز انتصارات على جماعات يهوذية او على قبائل مصادقة لهم. يأتي بالغنائم الى اكيش، لكنه لا يبقي ناسا على الحياة – ليس لانها "حرب مقدسة" – لكن لكي يكمن الامر. البهائم لا تتكلم !! الحيلة تنجح أكثر من اللازم. يكتسب اكيش ثقة بداود ويعينه خفيرا له. فعلى داود ان يزحف مع اكيش على اسرائيل. المشيح اصبح مرتزقا عند العدو !!!
شاول عند ساحرة عين دور (1 صم 28)
شاول ايضا في بؤرة عميقة. نقرا للمرة الثانية ان صموئيل مات (3 – قارن 1صم 1:25). ليس داود وحده بل شاول ايضا فقد مرشده الروحي. يحاصر الفلسطيون اسرائيل. شاول يائس فاقد صوابه. لا يعلمه يهوه بما عليه عمله، لا في حلم ولا بنبي ولا بالاوريم (طريقة لمعرفة مشيئة الله بواسطة سحب القرعة). متحيراً مشدوها يتعدى شاول على قانون اشترعه هو فيستشير مستحضرة ارواح في عين دور. يريد منها ان تستحضر روح صموئيل لكي يقول له ما عليه ان يعمل.
بالواقع، هذه القصة تبرز ميزة مستمرة في حياة شاول كلها وهي طريقة معاملته لما يخص الله. لا توجد عنده علاقة ثقة. اساء شاول استعمال الله وما هو ديني وسائل سلطوية. لا تهم شاول وصية الله، تهمه ضمانات فقط لمستقبله هو. فيصبح الله هكذا قضاء وقدرا، او "روحاً شريرة" (انظر ص 50 وشرحنا لـ 1 صم 14:16، وشرحنا لـ 1صم 13-15 في ف12).
يتواضع شاول ويسجد امام روح صموئيل، ولكن لا فائدة له. يظهر له صموئيل "مرتديا برداء" (14). النبي يعرف من ردائه. ولكن الرداء يذكر شاول بحادثتين مؤلمتين كانتا ترمزان الى نبذه كملك
(انظر 1صم 27:15-28 و5:24). للمرة الثالثة ينبئ صموئيل بهلاك شاول، لكن هذه المرة بصورة أوضح من ذي قبل : يهوه صار عدوك، ينتزع المملكة من يدك ويسلمها الى داود، وسيسلم يهوه اسرائيل معك الى ايدي الفلسطيين، غدا تكونون معي انت وبنوك (16-19/قارن 13:13-14 و28:15).
قضي أمر شاول. الشخص الاخير الذي يظهر له في حياته قليلا من اللطف والانسانية هي المدعوة "ساحرة عين دور"، وهذه تسمية غير صالحة بالنظر الى خدمة الرحمة التي تقوم بها تجاه شاول. تقدم له ولحاشيته مأدبة آخر علامة تقدير للملك. بعدئذ يتوارى شاول في الليل (25).
نجاة داود (1 صم 29-30)
ينفلت داود بطريقة عجيبة من الاشتراك مع العدو في القتال ضد اسرائيل. عند استعراض الجنود الفلسطيين المتأهبين للحرب يرتاب القادة الفلسطيون في "هؤلاء العبرانيين" – داود ورجاله. يدافع عنهم اكيش، سدى : يترك داود واصحابه في البيت. واذا صار داود ملكا على اسرائيل بعدئذ فلا يرجع الفضل في ذلك اليه بل ارتياب رؤساء الفلسطيين. هكذا يصان من الخيانة. كاد ينتهي هذا المشيح يهوذا مسلما !! لا تخلو القصة من المزح، الذي يظهر ايضا في ان الفلسطيين بالذات يتذكرون ترتيلة النصر التي رتلتها نساء اسرائيل بعد انتصار داود على جليات (5:29 / قارن 1صم7:18 / 12:21).
وعند عودة داود الى صقلاغ المدينة التي اعطاه اياها الفلسطيون، يظهر ان العمالقة مروا بها : احرقوا المدينة واخذوا معهم جميع النساء والاطفال اسرى. يكاد داود يفقد ثقة رجاله، فيتسارع الى المطاردة. من عبد مصري تركه العمالقة لحاله مريضا منهكا يتعلم داود الوضع واين ضرب العمالقة مخيمهم. قصة القتال قصة جدعونية. كمثل عند جدعون يسمح للرجال المتعبين بالبقاء خلف (قارن قض 3:7-6) فيغلب داود مع جيش صغير قدره 400 رجل على العمالقة الذين هم لقمة سائغة في ساعة تمتعهم بالغنائم. يسمي داود الانتصار "عطية من يهوه" (23:30).
قصة النساء والاطفال المأخوذين اسرى والعبد المريض المهجور قد ذكرتنا بطبع العمالقة الحقيقي : انهم اولئك الذين دائما ابدا يطأون الضعفاء والمساكين (ص47-48). داود ينقذ العبد المريض ويتخلص من العمالقة نهائيا – بعد هذه القصة لا يعودون في الكتاب المقدس من بعد – فهكذا يكمل العمل لذي كان في الاول موكولا الى شاول (1 صم 3:15 / 18:28) فيبين اصالة ملوكيته المشيحية.
تتجلى هذه الملوكية المشيحية ايضا مما يصنع داود بالغنيمة. حاول شاول ان يحفظ جزءا من الغنيمة لنفسه خفية (1 صم 9:15). اما داود فيلح في ان الغنيمة بكاملها تقسم بين الجميع. وليس المنتصرون وحدهم، بل المئتا رجل المتروكون في القافلة ايضا ينالون حصتهم. "بعض الاشرار ممن لا خير فيهم" (22:30) يحتجون، تقريبا مثل عمال الساعة الاولى في مثل يسوع (متى 1:20-16)، لكن كلمة داود تحسم الأمر : الجميع يتقاسمون معا (25:30 / قارن عد 27:31).
موت شاول (1 صم 31)
يروى موت شاول وثلاثة من ابنائه في 1 صم 31 برزانة وبلا عاطفية. يسقطون على جبل الجلبوع في القتال مع الفلسطيين. اولا يسقط يوناثان وابيناداب وملكيشوع ابناء شاول. ثم يثخن الرماة بالقسي شاول بالجراح. التشنيع من قبل العدو اهانة كبيرة لا تمحى، فيطلب شاول من حامل سلاحه ان يقتله. يرفض هذا. يسقط شاول نفسه على سيفه وحامل سلاحه يقتدي به.
الانتحار امر نادر في الكتاب المقدس. ما عدا شاول وحامل سلاحه هناك شمشون (قض 30:16)، احيتوفل (2صم 23:17)، وزمري (1مل 18:16)، ويهوذا (متى 5:27). لكن لا يجوز جمع كل هذه الحالات بدون تمييز. موت شاول ليس فعلا من اليأس، انه محاولة اخيرة للحفاظ على كرامته. مع ذلك، يصح القول ان موت شاول بيد سيفه هو أمر رمزي. مذ دخل داود في خدمة الملك شاول تميز شاول رجلا "بيده رمحا" (1صم 11:18 / 10:19)، اما داود فكان الشاب الذي "لا سيف بيده" (1 صم 50:17) او "في يده الكنارة" (1 صم 10:18 / 9:19). اكثر من مرة حاول شاول مقتل داود بذلك الرمح، فانفلت منه داود كل مرة. مرة واحدة انتزع داود من شاول رمحه (1 صم 12:26). اخر صورة يعطينا الكتاب المقدس عن شاول صورة ذات معنى جدا عميق : الملك المغلوب المعتمد على سيفه. ما قاله داود لجليات يصح لشاول ايضا : "ليس بالسيف والرمح يخلص يهوه" (1 صم 47:17).
رواية موت شاول، وان كانت واضحة رزينة غير عاطفية، فانها لا تخلو من رحمة. فكما انه لاقى حنانا من قبل ساحرة عين دور، هكذا يحاط الملك المنبوذ القلق في ساعة موته ايضا بوفاء خدامه : حامل سلاحه وسكان يابيش. هؤلاء لم ينسوا ما صنعه اليهم شاول انذاك محررا مشيحيا حقيقيا (انظر 1 صم 11). الان، هم يأتون ويأخذون جثث شاول وابنائه من المكان الذي علقها فيه الفلسطيون دليلا على انتصارهم. يدفنون شاول وهكذا يصونونه من اكبر عار : عار التلاشي التام. وما كان للفلسطيين "بشرى سارة" (9) لم يكن كذلك لداود البتة. ذاك الذي ابى ان "يرفع يده على مشيح يهوه" (1 صم 7:24 / 9:26)، لا يفرح ايضا بموته، ولكنه يرثي شاول ويوناثان بمرثاة تبكي (2 صم 17:1-27).
يندب شاول ويوناثان ويعتنى بهما قدر الامكان. فعل شاول المجيد الواحد، تحرير يابيش، يرفعه فوق نبذه. منبوذ هو وفاشل كملك مشيحي، لكن ليس كانسان. لا ينهار شاول ولا يتلاشى مغمورا بلا اسم ولا ذكر. انما يظل قسما من تاريخ اسرائيل. سقط في القتال، على الطريق الى ارض الميعاد.
الاب كوب
15) تجربة داود
قد يجعلك هذا العنوان تفكر في قصة الملك داود وبثشابع الجميلة. ولكننا في قراءتنا لسلسلة داود ما زلنا منشغلين بقصص داود الشاب. يريد الملك شاول مقتل خادمه الناجح، فلم يبق لداود – بعد محاولات فاشلة للمصالحة من قبل يوناثان – الا ان يهرب ويختبئ في برية يهوذا، منطقة قبيلته المألوفة له.
"وانصرف داود الى مغارة عدلام. فلما سمع اخوته وكل بيت ابيه، نزلوا اليه الى هناك. واجتمع اليه كل صاحب ضيق وكل من كان عليه دين وكل من كان في مرارة نفس، فكان عليهم رئيسا وصار معه نحو اربع مئة رجل" (1:22-2). أصبح داود رئيس عصابة. منذ خبراته كراع عرف البرية حق المعرفة، فلا يعسر عليه الانفلات من شاول مرة بعد مرة. وفوق ذلك يهوه معه : "وكان شاول يطلبه كيوم، ولكن الله لم يسلمه الى يده" (14:23). يظل شاول يطارد داود، فهو مستعد ان يخصص لهذا الغرض جيشا من ثلاثة الاف رجل منتخبين من كل اسرائيل (3:24).
ايام داود اصبحت اياما صعبة عليه. قبل ان يتخذ مهمته المشيحية على عاتقه يمتحن في البرية. مثله كمثل المشيح يسوع فيما بعد تقريبا ("وكان مع الوحوش" مر13:1). رواية تجربة داود لوحٌ ثلاثي : تمتدّ على 1صم 24 و25 و26. القصة الاولى والقصة الثالثة متشابهتان : بصدر رحب يصمد داود في وجه التجربة. اما في القصة الوسطانية فلو لم يلتق بابيغائيل لكان قد وقع في التجربة.
طرف رداء شاول
في القصة الاولى مسحة من المزح. شاول مع جيشه يطارد داود. وفي الطريق تباغته حاجة طبيعية ماسة فيعتزل الى مغارة ويجلس القرفصاء. وفي ذات المغارة قد اختبأ داود مع رجاله !! يسهل علينا تصور الوضع. شاول في هذه الحالة المكشوفة جدا لقمة سائغة لداود، فيشجعه رجاله على انتهاز الفرصة : "هذا هو اليوم الذي قال لك يهوه فيه : هاأنذا اسلم عدوك الى يدك، فتصنع به ما حسن في عينيك " (24: 5) الرسام الهولندي رمبرانت رسم هذا المشهد في لوحة رائعة . شاول جالس القرصفاء يبعد بيده رداءه الى الوراء لاسباب صحية . على مدخل المغارة خفير ينظر الى الخارج مخلصا، لانه لا يليق به ان ينظر الى قائده في هذه القعدة العاجزة. شخص شاول واضح في الضوء، أما داود ورجاله ففي العتامة خلفا. رجال داود يوضحون بلا كلمات ما في فكرهم. جمع يد مرفوعة تمثل ضربة خنجر في الظهر. اصبع تشير الى فوق، وكف سوي يدل على الحلق : أقطع رأسه ! انها مشيئة الله !.
أهي فعلا مشيئة الله ؟ هل يريد الله ان يستغل داود الوضع ويغتال شاول ؟ كانت التجربة قوية على داود ان يفكر هذه الفكرة، ورجاله يلعبون دور الشيطان. ولكن داود يبصر جيدا انها ليست مشيئة الله ويقول : "حاش لي بيهوه ان اصنع هذا الامر بسيدي مشيح يهوه، وارفع عليه يدي، لانه مشيح يهوه" (7:24). لكن قبلما قال هذا يبين انه لا يخاف، وانه يريد ان يعطي شاول درسا. يقترب خلسة ويقطع طرفا من رداء شاول دون ان يحس به ذاك. حركة مليئة رموزا !! الرداء في الكتاب المقدس ليس قطعة ثوب فقط. انه متشرب بشخصية حامله. نذكر الرداء الذي اعطاه يوناثان لداود (1صم 4:18) ورداء ايليا النبوي (1مل 19:19) وتذكر حركة داود باليوم الذي فيه امسك شاول بطرف رداء صموئيل وشقه منه : هكذا انتزع الله الملوكية عن شاول (1 صم 27:15-28). اذن، ينتزع داود الملوكية رمزيا من شاول فيسبق المستقبل. وبنفس الوقت يظهر نفسه انسانا عاقلا متمالك النفس : خلافا لرغبة اصحابه لا يقتل شاول. رغم كل شيء ما زال شاول "مشيح يهوه" ولا يستملك داود الملوكية عنوة. يظهر توتر الساعة في بناء القصة المتراكز :
A شاول بعد الخبر يأخذ معه الجيش ويطارد داود واصحابه (2-3).
B الى داخل المغارة : شاول طالبا، داود مختبا في الخلف (4)
C حديث : الاصحاب يغوون داود (5)
X فعل فريد + لغة الجسم : يقطع داود طرفا من رداء شاول، يخفق قلب داود
C’ حديث : داود يأبى الاغواء (7-8أ) (5-6)
B’ الى خارج المغارة : شاول سائرا في سبيله، داود تابعا خلفه (8ب-9أ)
A’ داود ينادي شاول، شاول ينظر الى الوراء ويرى داود (9ب)
سائر الفصل 24 تأمل في الحادث. في خطاب طويل ساخط يوضح داود لشاول انه ليس في أي خطر من قبله فالاحسن ان يوقف المطاردة (10-16). من جواب شاول يتضح تأثير موقف داود الكريم في الملك. "أهذا صوتك يا ابني داود ؟ - ورفع شاول صوته وبكى. ثم قال لداود : أنت ابر مني، لانك جزيتني خيراً وانا جزيتك شراً (17-18). شاول ، ذاك الذي لم يطق لفظ اسم داود من بعد وكان يتكلم عن "ابن يسى" مزدريا فقط (1صم 27:20 و30 و31 / 7:22 و8 و13)، يفاجئنا الان بتسميته "ابني داود". القشر القاسي لانانيته المتكبرة يذوب في الدموع، وفي لحظة من الاستبصار يعاد بشاول الى نفسه. لحظة يرى ويفهم كيف العلاقات في الحقيقة، وحتى يشهد لايمانه بملوكية داود المقبلة (21). الا ان اهتداءه يبدو قصير الاجل، ولا تسد الهاوية القائمة بين شاول وداود : "وانصرف شاول الى بيته، وصعد داود ورجاله الى الملاجئ" (23).
حكمة ابيغائيل
تبتدئ القصة الثانية بالخبر المقتضب ان صموئيل قد مات فيدفن. ليس هذا الخبر عديم الاهمية. اذ ان صموئيل هو النبي الذي حتى الان كان يرافق تكون الملوكية في اسرائيل والذي مسح داود. من سيذكر داود بدعوته الرفيعة وصموئيل قد مات ؟ يتجلى من هذه القصة كم داود في حاجة ماسة الى اشخاص نبويين في حياته.
في المنطقة التي يتجول فيها داود ورجاله يسكن رجل غني مقتدر صاحب مشروع ضخم للغنم والمعز. اسمه نابال الذي تفسيره الحرفي "غبي". قد نتساءل من ذا الذي يعطي ولده اسما كهذا. ولكن من الممكن ان الراوي يقصد به ان يجعلنا بهذا الاسم في سبيل فهم قصته المضبوط : يجب ان تقرأ القصة كمثل. نابال هو الغباوة المشخصة. اما امراته ابيغائيل فتقدم كالحصافة المشخصة (3:25).
صار وقت جز الغنم عند نابال، وهذه مناسبة كبرى لعيد يدعى اليه كل الجوار. فداود ايضا يرسل رسلا الى نابال للاشتراك في العيد. اول كلمة منه لنابال سلام ثلاثي : انت سالم وبيتك سالم وكل ما لك سالم" (حرفيا في 6:25). داود يأتي رجل سلام. لكن جواب نابال واضح : "داود من هو ؟ ابن يسى من هو ؟ لقد كثر اليوم الخدام الذين فروا من عند سادتهم !" (10:25). المواطن نابال الراضي جدا بنفسه لا يريد أي شأن في رعاع كمثل داود. في وجه كذا عجرفة متغطرسة ينقلب انفعال داود تماما. رد فعله شديد. بدلا من "السلام" ترن كلمة "سيف" ثلاث مرات : "فقال داود لرجاله : تقلدوا كل منكم سيفه. – فتقلد كل واحد سيفه. وتقلد داود سيفه ايضا" (13). هل سينتهي داود الذي حتى الان "لم يكن في يده سيف" (1 صم 50:17 / 10:18 / 9:19) رجل سيف يأخذ حقه في قبضة يده ؟ "كذا يصنع الله بـ(اعداء – عبري) داود وكذا يزيد، إن ابقيت من كل ما له الى ضوء الصباح بائلا بحائط" (22). "بائل بحائط" كلمة خشنة غير لائقة. بدأ داود يتصرف باسلوب "نابالي" !
لحسن الحظ تمثل ابيغائيل على المسرح. يعطيها خبرا احد العبيد الذي يشهد ايضا بأن داود ورجاله لم يؤذوهم قط، بل كانوا بالعكس يحمون الرعاة والقطعان : "كانوا سورا لنا ليلا ونهارا، كل ايام وجودنا معهم في رعي الغنم" (16). نستلخص من ذلك ان داود ورجاله التجأوا الى برية يهوذا ليس فحسب بل كانوا يحافظون فيها على النظام ويحمون الرعاة من اللصوص ومن اخطار اخرى ايضا. تتدخل ابيغائيل حالا. تأخذ هدايا وتسرع الى داود وتسجد الى الارض امامه. ثم تلقي خطابا طويلا (24-31) يستحق ان نتوقف عليه قليلا. تصنع ابيغائيل ثلاثا. اولا، تأخذ كل الذنب على نفسها وتعوض بهداياها عن اهمال زوجها : "علي انا يا سيدي هذا الذنب … اغفر معصية امتك" (24 و28). ثم، تلفظ اسم يهوه بتكرار، علامة انها تريد ان تنظر الى الامور من وجهة نظر الله، وفي هذا الضوء ترى داود ملكا مقبلا لاسرائيل (26 و28 و29
و30 و31). واخيرا توقظ بكلامها "الانا الاكرم" في داود : "حي يهوه وحية نفسك، فبما ان يهوه قد منعك من سفك الدم وانتقام يدك لنفسك … لان سيدي يحارب حروب يهوه …" (26 و28). بالواقع، داود في الساعة نفسها محارب حربه الشخصية وهو عازم على الانتقام. الا ان ابيغائيل على يقين ان موقف داود المشؤوم ممكن تغييره. هذه المرأة تلعب دورا نبويا في حياة داود. كمثل صموئيل آنذاك (1صم 11:16-12) ابصرت شيئا في داود : انها تؤمن به وتذكره بدعوته المشيحية وتصونه عن اساءة استعمال السلطة والعنف.
ينجز تدخل ابيغائيل انجازاً مباشرا. "فقال داود لابيغائيل : مبارك يهوه اله اسرائيل، الذي ارسلك اليوم للقائي ! مباركة حكمتك، ومباركة انت … اصعدي الى بيتك بسلام" (32-35). يعود داود رجل بركة، وكمثل كلمته الاولى كذلك كلمته الاخيرة كلمة سلام. ثم نسمع ما يحدث لنابال. بعد ما قام من نوم السكر بعد الاحتفالات تتكلم معه امراته فتقول له ما صنعت. فيصاب بسكتة قلبية ويموت بعد أيام. ما من شيء يحول دون زواج داود وابيغائيل. يمكننا ان نفهم الامرين، على صعيد المثل، فهما رمزيا. يموت نابال : "سلوك نابالي" (عند داود ايضا !) لا خير فيه، انه "مكتوب للموت"، يجب ان لا تعطى له فرصة. وابيغائيل، حكمة الكتاب المقدس المجسدة، تصبح قرينة داود : هل للملك المشيحي زوجة أفضل من ابيغائيل هذه الحكيمة النبوية الناقدة ؟؟
احبب عدوك
القصة الثالثة في الفصل 26 كانها صدى للقصة الاولى. مرة اخرى شاول في مطاردة داود، ومرة اخرى ينقلب الدوران. من جديد يحث داود واحد من اصحابه اسمه ابيشاي على انتهاز الفرصة وقتل شاول : "قد اسلم الله اليوم عدوك الى يدك، فدعني اطعنه بهذا الرمح الى الارض، طعنة واحدة، ولا اثنّي عليه" (8:26). ومن جديد يبقي داود على الملك ويبين له براءته. اذا قرأنا الفصل كله اكتشفنا الى جانب المشابهة الكبيرة اختلافات ملحوظة ايضا بحيث ان القصة الواحدة تتكامل مع الاخرى : "في ف24 يفاجأ داود نفسه بظهور شاول في المغارة فتسلله اليه ارتجالي. اما في ف26 فيتسلل الى الملك عمدا. في ف24 ينزع عن شاول الملوكية رمزيا بقطع طرف رداء الملك . أما في ف 26 فينتزع عنه سلطته وحياته (المزمور اليهما بالرمح وجرة الماء). في ف 24 الاثنان وجها لوجه. اما في ف26 فالتباعد الفيزيائي كبير فتحدد الظلمة الليلية الاتصال في ما يسمع فقط" (ي. فوكلمان).
القصتان في السلطة التي لا تتحول عنفا تطوقان طوقا ذا معنى عميق حول القصة الرائعة لابيغائيل التي تتمكن من الحيلولة دون مجزرة فتعطي داود درسا في عدم اساءة استخدام السلطة. في القصة الوسطانية نرى داود انسانيا جدا في قبضة مشاعر انتقامية، لكنه مستعد ايضا للاصغاء الى ما تقوله امراة بطريقة نبوية. وفي القصتين المطوقتين نلاقي داود كريما صفوحا بطريقة تفوق القوى البشرية تقريبا. يعبر عنه شاول على هذا المنوال : "اذا تمكن المرء من عدوه، فهل يطلق سبيله بخير ؟ جزاك يهوه خيرا لما صنعت اليوم معي" (20:24). ان داود – في احترامه لشاول مسيح يهوه الذي يقصد قتله في كل وقت – يدل على الطريق الى الموقف الذي سوف يطلبه يسوع ابن داود من تلاميذه : "اما انا فاقول لكم : احبوا اعدائكم وصلوا من اجل مضطهديكم" (متى 44:5). احيانا يسع الناس كذا موقف كريم صفوح. داود قد ثبت في الامتحان. انه متأهب لاتخاذ مهمته المشيحية كملك اسرائيل.
14) داود وشاول ويوناثان
في بدء 1صم 18 نقرأ رد فعل الملك شاول وابنه يوناثان على انتصار داود. نلاحظ الاختلاف بين الموقفين. شاول يريد أن يعلق داود بنفسه : "امسكه في ذلك اليوم (في خدمته) ولم يدعه يرجع الى بيت ابيه". اما يوناثان فـ "يقطع مع داود عهدا" : انه معجب بداود ويحبه. علامة لاعجابه يعطي داود هدايا : رداءه وسيفه وقوسه وحزامه. انها هدايا ذات معنى. يتنازل يوناثان عن اسلحته ويبين انه يقبل على داود معروضا مكشوفا بلا سلاح، ليس فحسب بل يعطيه رداءه ويمكننا ان نرى فيه رمزا الى الملوكية. اذ ان الرداء يشير الى منصب حامله (أنظر رداء ايليا في 1 مل 19 : 19) ويوناثان ابن شاول البكر هو ولي العهد !.
حسد شاول
تعلمنا من قصص 1صم 13 و14 ان يوناثان مختلف جدا عن ابيه. شاول حريص على ذاته وهيبته وسلطته، فلا يرى في توفيق داود الا تهديدا. نشيد النساء : "قتل شاول الوفه وداود ربواته" يرن في اذنيه لعنة. يغضب جدا ويستاء : "جعل لداود ربوات، واما لي فجعل الوف، فلم يبق له الا الملوكية ! "
(18 : 7-8). شاول يحسد. شاول يخاف داود. ذات مرة، لما لم يتمكن من ان يتماسك بعد (تقول القصة : "اعترت شاول الروح الشريرة" 10) رمى برمحه الى داود العازف على الكنارة. تفادى داود، مرتين. ثم يطلب شاول طرقا اخرى ليتخلص من داود. يعينه رئيسا للجيش ويرسله الى الجبهة. يعرض على داود الامكانية ان يصبح صهر الملك اذا بين نفسه شجيعا في القتال. يفتكر شاول : "لا تكن يدي عليه، وانما تكون عليه يد الفلسطيين" (17:18). لكن لما بلغت ميراب ابنة شاول الكبرى عمر الزواج اعطيت لرجل اخر. ثم ميكال الابنة الثانية تولع بداود. مرة أخرى يحاول شاول استغلال الوضع. يطلب من داود مهرا قدره "مئة قلفة من الفلسطيين". ما كان الفلسطيون يمارسون الختان، خلافا لاسرائيل ومعظم الشعوب في المشرق القديم. فعلى داود اذن ان يقتل مئة فلسطي ويأتي بقلفهم كـ "فروة الرأس". بالطبع، شاول يأمل ان داود سوف يقع في ايدي العدو. ولكن داود يخرج مع رجاله ويقتل مئتي فلسطي ويأتي شاول بقلفهم. (المزح الخشن في هذه القصة يطلب من القارئ العصري قليلا من طيبة الخاطر). فلا يبقى لشاول الا ان يعطي ابنته ميكال زوجة لداود. ينظر شاول نظرة شزراء الى حب ميكال لداود والى نجاح داود "في كل ما يصنعه" (5:18 و14 و15 و30). الفعل المستعمل هنا هو "يسكيل" ومعناه يقارب "العمل بانتباه واحكام". لا يقصد الكاتب اذن ان داود "سوبرمان"، بل انه يحسن الاستفادة من طاقاته وقابلياته. وفوق ذلك يكثر القول ان "الله معنا" (12:18 و14 و28).
صداقة يوناثان ووفاؤه
افتهم يوناثان ذلك من اول لحظة. خلافا لابيه لا يرى في فلاح داود تهديدا. يوناثان انسان يضع مركز ثقل حياته خارج نفسه فيستطيع ان يفرح دون اية صعوبة بالخير الذي يصيب غيره. منذ أول لقاء "بدأ يوناثان يحب داود حبه لنفسه" (1:18).
عندما تعلم يوناثان ان اباه يريد قتل داود يخبره حالا بالأمر ويدبر له الفرار. ثم يدافع عن داود امام ابيه (1:19-5). في عصر وحضارة حيث كانت مشيئة الاب، ومشيئة الملك بالتأكيد ، قانوناً ، وحيث لم يكن من البديهي والمعقول ان الابن يجيب اباه معارضاً ، كان تصرف يوناثان شجيعاً للغاية . ولكنه يحصل على نتيجة : يحلف شاول بأن لا يقتل داود فيعود هذا يخدم الملك كالاول (6:19-7). اهتداء شاول قصير المدى. "كان شاول جالسا في بيته والرمح في يده، وكان داود يعزف بيده" (9)، ومرة أخرى يحاول ان يسمّر داود بالرمح في الحائط، ومرة أخرى ينفلت داود. يرسل شاول رسلا يقبضون على داود فلا ينجحون. اولا تخدعهم امرأة داود ميكال، ثم – بعدما هرب داود الى صموئيل في الرامة ويفتشه هناك رسل الملك، يقعون ثلاث مرات مسحورين منخطفين بروح النبوة في وسط الجماعة النبوية حول صموئيل. حدث عجيب مضحك. في آخر الامريذهب شاول شخصيا الى تلك الجماعة فهو ايضا ينخطف. فيقال ان هذه المناسبة انتجت المثل : "أشاور ايضا من الانبياء؟" (24:19).
تزداد قصة الفصل 20 جدية واثارة حيث يتجلى كامل محمل الجد لعهد الصداقة بين يوناثان وداود. يقسم يوناثان بانه سوف يعمل كل ما في وسعه لينجي داود. فيأخذ على عاتقه الاخطار الممكنة من جهتي الطريق الضيق الصعب الذي يختاره : طريق الوفاء تجاه ابيه شاول ووفاءه تجاه صديقه داود. مما يؤثر ويبكي دفاع يوناثان عن ابيه في الاول. يقول لداود : "حاش ! انك لا تموت فهوذا ابي لا يصنع أمرا كبيرا ولا صغيرا ما لم يكاشفني به، فكيف يكتمني أبي هذا الامر ؟ ليس هناك شيء من هذا" (2:20). لكن داود يعرف أحسن. فيدبر الصديقان معا سيناريو كاملا. في العيد القادم للبدر يغيب داود بحجة ذهاب الى اهله في بيت لحم. اذا غضب شاول اتضح انه قرر هلاك داود، فسيعلم يوناثان داود بذلك عن طريق علامة متفق عليها بقوس وسهم. الاتفاق يتم في الحقل الفسيح. يقول الصديقان لبعضهما : "هلم نخرج الى الحقل" (11:20). في الحقل الفسيح لا يوجد شهود ولكنه حرفيا الكلام الذي كلم به قائن هابيل قبلما قتله (تك 8:4). لا ننسى ان يوناثان وداود ندان للملوكية. تتجلى من هذا المقطع كله الثقة الكبيرة التي لكل من الصديقين بالاخر.
ويشعر يوناثان انه يخاطر بحياته بمخالفته اباه : "وان بقيت حيا، فكن الي وفيا وفاء يهوه" (14:20).
ويحصل ما كان داود يخشاه. ينفجر شاول على يوناثان مغضبا قائلا : "يا ابن الفاسدة المتمردة، الم اعلم انك قد تحزبت لابن يسى لخزيك وخزي عورة أمك ؟ لانه مادام ابن يسى حيا على الارض، فلا تثبت أنت ولا مملكتك. ارسل الان فاتني به، لانه يستوجب الموت." (30:20-31). يحاول يوناثان محاولة أخيرة : "لماذا يقتل ؟ ما الذي صنعه ؟". فيرمي شاول برمحه الى يوناثان ليقتله كما صنع بداود مرتين"
(32:20-33). يكفي ذلك ليوناثان. ينذر داود، فيودع الصديقان واحد الاخر. يهرب داود الى البرية ويعود يوناثان الى المدينة. لا يلتقيان من جديد، ولكنهما يبقيان مرتبطين في الصداقة والوفاء عبر الموت : "اذهب بسلام ! اننا قد حلفنا كلانا باسم يهوه وقلنا : ليكن يهوه بيني وبينك، وبين ذريتي وذريتك للابد" (42:20).
خيار يوناثان الصعب
في خلفية هذه القصة "العلاقة المثلثة" بين شاول ويوناثان وداود. بين هؤلاء الاشخاص نوعان من العلاقات. من جهة واحدة الارتباط او "علاقة الواجب". ينشأ الارتباط من القرابة الدموية، او من علاقات خدمة. هكذا بين شاول ويوناثان، بين الاب وولي العهد، ارتباط شديد جدا، وهكذا بين الخادم داود وسيده شاول علاقة وظيفية. ومن جهة اخرى العهد، علاقة الصداقة الاختيارية بين يوناثان وداود. نوعا العلاقات هذان يمكن كل واحد منا ان يكشفهما في حياته الشخصية. مرارا ينشأ بين الاثنتين توتر او تضارب. ما من أحد يستطيع ان ينكر ارتباطاته بالناس حواليه دون ان يمزق شيئا في نفسه. ولكن الانسان بحاجة ايضا الى "علاقات عهد"، بحاجة الى اناس يحبهم خارج كل ارتباط ويقبلهم من صداقة او حب مؤثرين في مصير حياته.
ليست الصداقة الناشئة بين يوناثان وداود أمرا بديهيا. كان الارتباط بين الاب والابن في المشرق القديم اشد من اليوم. كانت الحلقة الحامية من الاسرة والعشيرة ضرورية للحياة وما من احد استطاع ان يخاطر بها دون عواقب سيئة. في صداقة داود ويوناثان اخطار كبرى اذن. اذا كان داود يطمح فعلا الى الملوكية فكان من مصلحته ان يتخلص من ولي العهد ونسل شاول برمته. ولاول وهلة الحق لشاول عندما يدعو داود منافسا ليوناثان (31:20). نشعر بالمخاطرة على طول القصة. على الصديقين ان يأخذا مواعد سرية. اكثر من مرة يقسمان بالوفاء. يحلف يوناثان بان سوف لا يسلم داود ويحلف داود بانه يجوز له قتله ان خانه في شيء (8:20)، واخيرا يلعن شاول يوناثان من اجل هذه الصداقة ويهدده بالموت (30:20-33).
يوناثان في كل القصة الممثل الرئيسي. هو واقف في نقطة تقاطع الارتباطات بابيه وعلاقة العهد مع داود. وكان شغلا صعبا على يوناثان ان يحترم كلا من العلاقتين. وانه لعجب انه ينجح في حفظ توازن الوفاء في شفرة السكين. هو أمام الخيار بين أبيه والملوكية من جهة وبين صداقة داود من جهة أخرى. اذا اختار لداود اختار بطريقة انجيلية دون ان يسقط اباه. يوناثان يظل امينا لابيه شاول ايضا. يظل يحاول الحوار مع ابيه. لا يفجر الجسور. ولما لا ينجح في المصالحة مع ابيه وداود، يحزن حزنا (34:20). اما كان اسهل ليوناثان لو هرب مع داود ويثور على الملك ؟ (انظر 1صم17:23). لكنه يعود الى شاول ويسقط اخيرا في القتال الى جنب ابيه (1صم31). يبقى يوناثان أمينا وفيا حتى النهاية.
مدرسة للصداقة
ممكن أن نقرأ هذه الرواية درساً للصداقة الحقيقية. فيها نمو : من اعجاب وتبادل الهدايا عبر الثقة والوفاء الى المخاطرة بالنفس.
الصداقة تفترض ثقة. يثق داود بابن عدوه (1:20). اشرنا الى المخاطرات التي يعرض الصديقان نفسيهما لها وهي علامة واضحة الى ثقتهما المتبادلة. مثلا مخاطرة الذهاب معا الى الحقل الفسيح. يفعل داود ما يسأله يوناثان. اكبر بيان انه يؤمن بان يوناثان لن يكون قاتل الاخ. يوناثان انسان يريد هو – خلافا لقاين – ان يكون حارسا لاخيه. كذلك موعد اللعبة مع القوس والسهم (تذكر بنوع من وحي الهي بواسطة السهم). السهم وهو سلاح مميت يصبح علامة لانقاذ الاخ.
في هذه الثقة ينمو الوفاء الذي يتجلى فقط بكامله في الوداع. لم يعد الصديقان يريان بعضهما قط بعدئذ (1صم16:23-18 يتأتى من تقليد آخر). لكن الوفاء الحقيقي ينمو حتى عبر الموت. تفعل الصداقة مفعولها الى نسل يوناثان. بعدما صار داود ملكا يحيط ابن يوناثان سقيم الرجلين بحب واحترام "من اجل يوناثان" صديقه (أنظر 2صم1:9-7).
لا تبلغ الصداقة اشدها الا اذا قدرت على اطلاق السراح ولا تجعل الوداع امرا مستحيلا. في علاقة رحيبة لا يقبض واحد الثاني ابدا. الفرح الكبير من اجل الكون معا لا يفوق ابدا الدعوة الشخصية لكل من الشريكين. الصداقة الحقيقية تتحمل وجع الوداع، لان الواحد يعرف الاخر قريبا في عهد باسم يهوه. الله نفسه ينتمي الى الصداقة والوفاء : يهوه هو اله العهد. يلاحظ ان القصة التي قليلة التدين انما تذكر اسم الله في عهد الصداقة (8:20 و13-14 و22-23 و42). الله نفسه شاهد وضمان : لان الله وفي، الناس قادرون على الوعد بالوفاء. اذا كان الله اساس العلاقة قدرت العلاقة ان تكون أعمق. يجب ان يصنع اسم الله بايد بشرية. الله حاضر في ما يفعل الناس.
الأب كوب
13) داود : رجل على حسب قلب الله
نبذ يهوه شاول كملك. فيمثل داود على مسرح الاحداث. مرة أخرى يحدث هذا المثول "ثلاثا". نقرأ 1صم 16-17.
التعلم ان يبصر بعيني الله (1صم 16 : 1-13).
خابت أمال صموئيل في شاول، ولكنه لم يحفظ له حفيظة. عكس ذلك. يتألم هو من وراء اخفاق ملوكية شاول : هو حزين. "ظل صموئيل يحزن على شاول، لان يهوه ندم على انه ملك شاول على اسرائيل" (1صم 15 : 35). حزن صموئيل هذا عاطفة شريفة، لكن لا يجوز ان تطول فوق الحد. يساله يهوه : "الى متى تحزن على شاول؟" (16 : 1). لا يجوز لصموئيل ان يظل قانطا. لم يكن اختياره ناجحا. لكن لا يعني ذلك ان الطريق مسدود ولا يمكن مستقبل جديد. دعي صموئيل طفلا صغيرا في شيلو. لكن الدعوة ليست شأن آن واحد، انها تدوم طول الحياة. فيدعى صموئيل من جديد. القصة التالية قصة دعوة كلاسيكية.
اولا ينال صموئيل أمرا من يهوه : عليه ان يملأ قرنا زيتا ويذهب الى بيت لحم يدهن ابنا من ابناء يسى ملكا. يعارض صموئيل كلام يهوه كما عارض موسى وجدعون وارميا لدى دعوتهم : "كيف أذهب ؟ ان سمع شاول، يقتلني" (2). مسح ملك جديد في حين شاول جالس بعد على العرش هو فعل ثوري يعرض حياته للخطر. لكن يهوه يلح. على صموئيل ان يذهب الى بيت لحم نبيا كاهنا يقرب قربانا. يهوه يكون معه فيعطيه آية. "أنا اعلمك ماذا تصنع، وامسح لي الذي اسميه لك" (3). يطيع صموئيل. يذهب الى بيت لحم. مجيئه تعمل ضجة : اذا جاء نبي زيارة، فلابد ان له هدفا !! يهدئ صموئيل الشعب ويدعو يسئ الى الذبيحة مع ابنائه. الابن الكبير، الياب، قامته كقامة شاول، هو في الحال رجل على حسب قلب صموئيل : "لا شك ان امام يهوه مسيحه" (6). لكن يسمع صموئيل صوت يهوه في قلبه : "لا تراع منظره كما ينظر الانسان، فان الانسان انما ينظر الى الظواهر ، واما يهوه فانه ينظر الى القلب (7) .
ما كان صموئيل يظنه علامة لصالح الملوكية يبدو انه علامة ضدها . اما كان شاول ايضاً رجلاً "يزيد طولاً على الجميع من كتفه وما فوق " ؟ (انظر 1صم 9 : 2 /10 : 23 ). اولم يخفق الامر لان شاول اراد بكل ثمن ان يبقى هو الاكبر والاقوى ؟ كلا يا صموئيل ، لا تخطأ مرة ثانية . عليه ان يتعلم ان ينظر بعيني الله. "يهوه ينظر الى القلب" (7). النبي هو واحد ينظر الى اعمق ويبصر اكثر مما يرى على السطح فقط. ولا يخدع باعتبارات بشرية الامتياز والمرتبة والاصل. يقدم يسى سبعة من ابنائه لصموئيل. يرفض صموئيل سبعتهم. لا شك ان الرقم سبعة رقم رمزي، لان ما عدا داود لا يذكر من ابناء يسى الا ثلاثة اسميا (6-9/انظر كذلك 1صم 17 : 13-14). "سبعة" يعبر عن الملء والتمام. فيحصل الانطباع ان لا ابن آخر ليسئ. يبدو كأن جميع الامكانيات نفذت. ولكن صموئيل لا يقطع الامل : عند الله ما من مستحيل. يسأل يسى : "ا هؤلاء جميع الفتيان؟" – فيباغتنا ابن ثامن : داود، الاصغر، وهو يرعى الغنم. "كان أصهب، جميل العينين، وسيم المنظر" (11-12). الا صموئيل عارف : هو هو. فيمسحه في وسط اخوته. فانقض الروح عليه.
من سائر القصة لا يتبين ابدا ان هذه المسحة لداود "في وسط اخوته" حدثت فعلا. اخوته لا يعلمون شيئا (1صم 17 : 28). بعد ذلك بمدة طويلة فقط يمسح داود ملكا على يهوذا اولا ثم على جميع اسرائيل (2صم 2 : 4 و5 : 3). هذه القصة الاولى عن داود ليست قصة تاريخية بل قصة لاهوتية. تعبر عن الاعتقاد بان يهوه اختار داود "مشيحا" (مدهونا) لاسرائيل منذ البدء. تبين ان يهوه يستخدم مقاييس غير اعتيادية في اختياره. لا يختار الكبير ولا الاطول ولا الاقوى، انما يختار الاصغر. يختار من لم يحصى بعد – أين هو؟ آه، يرعى الغنم . يهوه رأى فيه الملك الحقيقي. على صموئيل، النبي، ان يتعلم النظر بعيني الله، وقراء القصة أيضا يدعون الى أن ينظروا الى الناس والعالم هذه النظرة. الاية 7 هي جملة مفتاح، للقصص التالية أيضا : "يهوه لا ينظر الى كما ينظر الانسان، فان الانسان انما ينظر الى الظاهر، واما يهوه فانه ينظر الى القلب".
العازف على الكنارة (1صم 16 : 14-23)
انفضّ روح يهوه على داود وانصرف الروح عينه عن شاول. أسوا من ذلك : تعذبه "روح شريرة""ارسلها يهوه" (14). كيف نفهم هذه الجماة ؟ هل يرسل يهوه أرواحا شريرة الى الناس فعلا ؟
لابد ان الاساس التاريخي هو في ان شاول اصبح رجلا يميل الى الانقباض يصاب بحالات كآبة. وقد رأينا في الفصول السابقة ان الملك توحش أكثر فاكثر وسوف نسمع عنه اشياء اخرى في ما يلي. كذا ظواهر نفسانية نسبت في القدم بطبيعة الحال الى أرواح شريرة. ان الروح الشريرة ارسلها يهوه، يمكن فهمه بطرق مختلفة. ممكن انه أثر باق من اعتقاد بدائي ان الله يقدر ان يقاصص انسانا هكذا. ممكن انه قول لاهوتي يقول ان كل ما يحدث، ما هو سلبي ايضا، له مكان في خطة الله. ارادوا بهذه الطريقة ان يبعدوا كل نوع من الثنائية : لا شيء يحدث خارج ارادة الله. هكذا نقرأ في قصة الخروج ان يهوه "قسى قلب فرعون" (مثلا خر4 : 21/ 14 :4) لكن هذه التفسيرات لا ترضينا ارضاءا تاما. لان الكتاب المقدس نفسه يتباعد عن التعبير : مثلا في 2صم 24 : 1 نقرأ ان يهوه حرض داود على بني اسرائيل، اما 1 أخ 21 : 1 (أحدث) فيقول ان الشيطان فعل ذلك. فمن الممكن ان العبارة "أرسل يهوه الى شاول روحا شريرة" لها معنى أعمق. تقول ايضا شيئا عن صورة الله الخاصة لشاول. في الفصول السابقة قرأنا ان شاول أساء استعمال ما هو ديني بل الله نفسه وسيلة للتسلط. بذلك قطع شاول بالواقع علاقته بيهوه. صار يهوه عنده "موضوعا" يحاول التصرف فيه. اذا لم يعد يكون لانسان ما علاقة صحيحة بالله، فجائز جدا ان "الله ينتهي عنده وهما مخيفا، "شبحا مفزعا"، روحا شريرة".
على كل حال، تشفق عليه حاشيته. يفتشون عن عازف يفرح الملك. فيجدون داود وهو شاب موهوب : "ابنا ليسى من بيت لحم، يحسن العزف، وهو ذو بأس ومحارب باسل، فصيح الكلام، حسن المنظر، ويهوه معه" (18). فيدخل داود في خدمة شاول عازفا على الكنارة وحاملا لسلاح الملك ايضا. فمتى ما ازعجت الروح شاول عزف داود الكنارة. فيهدأ الملك وتنصرف الروح عنه. يترجح ان لهذه القصة، خلافا للقصة السابقة، اساسا تاريخيا.
انتصار دون استخدام السيف (1صم 17)
قصة "داود وجليات" المعروفة. فلنصنع اولا تحليلا ادبيا مختصرا عن القصة. النص مؤلف من قصتين : قصة أ وقصة ب.
قصة أ نجدها في 1-11 و32-54. انها تفترض القصة السابقة في 1صم 16. داود معروف وهو في خدمة شاول. القصة مبنية بناءً متماثلا. الجيشان الفلسطي والاسرائيلي مصتفان واحدا بازاء الثاني من جهتي واد (1-3). ثم القصة مبنية بناءً متراكزا:
A يتقدم جليات (4)
B وصف جهاز جليات (5-7)
C تحدي جليات (8-11)
C’ جواب داود (32-37)
B’ وصف جهاز داود (38-40أ)
A’ يتقدم داود (40ب)
ثم يقدم للمبارزة بحصر المعنى جدال بين جليات وداود. في كل من الخطابين ثلاثة عناصر متجاوبة :
A يسخر جليات من جهاز داود (43أ) A’ يشير داود الى سلاحه الحقيقي : ثقته بالله (45)
B يلعن جليات داود بالهته (43ب) B’ يؤكد داود ثقته بيهوه (46أ)
C يهدد جليات داود (44) C’ يجيب داود على تهديد جليات (46ب)
نهاية جواب داود لا يتوازى معه شيء في تحدي جليات. قمة خطاب داود تعطي القصة منعطفا لاهوتيا : "حتى تعلم الارض كلها ان لاسرائيل الها. وتعلم هذه الجماعة كلها ان ليس بالسيف والرمح يخلص يهوه. لان ليهوه القتال وهو يسلمكم الى ايدينا" (46جـ-47) المبارزة نفسها توصف باختصار دون اهتمام كثير
(48-51أ). واخيرا يذكر ان الاسرائيليين ينتصرون على الفلسطيين وان داود يأخذ معه رأس جليات واسلحته (51ب-54) ذكر اورشليم في غير زمانه الصحيح : داود سوف يفتح المدينة وهو ملك فيما بعد.
قصة ب" نجدها في 12 – 31 و55 – 58 وتنتهي في 18 : 2. في هذه القصة داود شاب غير معروف فلا تفترض القصص السابقة معروفة. عكس ذلك. هذه القصة تقول بطريقة مختلفة عن 1صم16 كيف دخل داود في خدمة شاول. المنسقون حاولوا ان يوحدوا القصة مع ما سبق. الايات 15 و16 و23ب محاولات تنسيق لاحق. تبتدئ قصةب بتقديم داود واهله. يرسله ابوه الى الجبهة حاملا زادا الى اخوته الثلاثة الذين أكبر منه. عند وصوله يتقدم جليات. تتخذ القصة ملامح الخرافة. من ضرب العملاق نال ثلاث مكافآت من الملك : غنى ويد الاميرة والحرية (25). اسئلة داود وجرأته واهتمامه تزعج اخوته : يغضب الياب (26-30) لم تحفظ في هذه القصة المبارزة نفسها. نسمع النتيجة فقط : يستعلم شاول من هذا الشاب الشجيع فيتخذه في خدمته (55 – 58 / 18 : 2) من الملاحظ اننا لا نجد قصة ب في السبعينية، وهي الترجمة اليونانية القديمة للكتاب المقدس. نقرأ فيها قصة أ فقط خطأ متواصلا. مرجح ان المترجم كان يشتغل على نص عبري لم يولج فيه نص قصة ب.
الى هنا التحليل الادبي النقدي. الان نلفت النظر الى معنى القصة كوحدة واحدة.
1) يتقابل جيشان قويان يتحدى بعضهما بعضا. المقصود هو ان يجعلوا الطرف الاخر عبيدا (9). شاول والاسرائيليون يموتون من الخوف. تدوم هذه الحالة "أربعين يوما" (16) : حالة ميئوسة مشلة.
2) تفاجئ النجاة من زاوية غير متوقعة : داود. ما من احد كان ينتظر منه شيئا : داود؟ هو مع الغنم (28). لكن داود يتجاسر على النظر المنتقد الى الوضع (26 و30). لا يفقد صوابه لسبب هوى جليات المنفوخ للتسلط. كأن بصر داود ينفذ درعه : "من عسى ان يكون هذا الفلسطي الاقلف حتى يعير صفوف الله الحي؟" (26). بنفس الوقت يذكر بني اسرائيل بدعوتهم : اليسوا صفوف الله الحي ؟! ينظر داود نظرة الله : ليس الى الظاهر، بل الى القلب (16 : 7 !) يفضح داود غرور الفلسطي بنفسه، "جليات" رمز جميع السلطات التي يجثو امامها البشر. انه يحرر اسرائيل من الفزع المشِلّ ويدلهم على طريق جديد.
3) هناك مقطع ذو معنى عميق هو المقطع الذي يريد فيه شاول ان يلبس داود درعه هو. ولكن داود لا يطيق التحرك في هذه العدة الغريبة عليه : يفضل ان يتقدم راعيا كما هو (38-40). يريد شاول ان يفرض رأيه وتفكيره واسلوبه على داود : عنفا وبطشاً مقابل عنف وبطش !! يريد ان يصنع من داود جليات ثانيا. لكن داود يختار طريقا آخر. بخمسة حجارة ملس من الوادي ومقلاعه – امكانياته المتواضعة – وبثقة كبيرة بالله يسقط العملاق.
4) يلح في ان "لم يكن في يد داود سيف" (50) ولكن المقلاع والحجارة ايضا ليست السلاح الحقيقي الذي يسقط به العملاق. السلاح الحقيقي هو شجاعته واقتناعه بأن يهوه لا يمكن ان يكون سوى اله اناس احرار، اعتقاده بان لا يجوز للانسان ان يخضع لملوك متكبرين، لاسلحة ولعمالقة. يشير داود بذلك الى خبرته الشخصية، وخاصة الى يهوه (انظر 34-37 و45-47).
يهوه هو المنتصر. لا يهدف داود الى جني مجد شخصي، بل الى اعلان "ان لاسرائيل الها" وان "ليس بالسيف والرمح يخلص يهوه" (46-47). قصة داود وجليات تبدو لاول وهلة كانها قصة حربية مليئة عنفا. في الحقيقة هي قصة احتجاج واستنكار ضد الحرب وضد العنف.
داود، ملك على حسب قلب الله
قدم الينا داود الشاب في ثلاث قصص. يظهر مرشحا مثاليا للملوكية المشيحية. حتى الان يجاوب تماما نموذج تث 17 : 14-20. أخذ "من وسط اخوته". لا يحسب نفسه متساميا عليهم. كان اصغرهم لا يفتكر فيه أحد ولا يعتبره. اختاره يهوه ومسحه النبي. لا يطمح الى السلطة. "لم يكن في يده سيف". يتصرف وفقا للتوراة متوكلا على يهوه. يظهر نفسه رجل تحرير، في المكان الاول لشاول – اعتناؤه الاول يخص الملك المنبوذ – بل رجل تحرير لكل اسرائيل ايضا. يمكن هذا الراعي الصالح للغنم ان يصبح راعيا صالحا لشعبه. لكن الامتحان الكبير لم يحدث بعد : الصراع مع الملك شاول. هذا موضوع الفصل الاتي.