الثاني من الصيف
محبّة الله، رحمةٌ تغفرُ وتُحيي (لوقا 15: 1- 32)
في خطوة جريئة، بل وقحة، طلبَ الأبن الصغير حصتهُ من الميراث، وكأنهُ يقول: أنت ميّتٌ بالنسبة لي. وفي موقفٍ مُحبٍ قدّمَ الأب للأبن الصغير الحصّة، وغادرَ الأبن بيتَ أبيهِ وهجرَ العائلة، ليعيش متغرباً في طيشٍ وعبثيةٍ وضياعٍ حتّى وصلَ إلى أن يكون راعياً للخنازير، وهي مهنةٌ وضيعةٌ لا يُمكن ليهودي أن يتصوّرها. ويقولُ ربّنا يسوع عنه: "وعادَ إلى نفسهِ"، وفي هذه العودة تذكّرَ متندماً كم أنه كان محبوباً ومُكرماً عندما كان في بيتِ أبيهِ، وكم ساءت أحوالهُ عندما قرر أن يواصِلَ حياتهُ من دونِ أبيهِ، ظناً منه أنه يعيش الحُرية. قصّة تصفُ حالة الإنسان مع الله، فهو إمّا أن يختفي خائفاً منه، أو يبتعِد متنكراً وجودهُ.
ربّنا يسوع، كلمة الله الأخيرة، محبتهُ المتجسدِة، كشفَ لنا في قصص الأمثال الثلاث عن ما يدورُ في قلبِ الله المحبّة، فهو ليس إلهاً يسعى إلى هلاكِ الخاطئ، وليس إلهاً منتقماً، بل ينتظرُ عودتهُ، وينطلقَ يبحث عنه، فيرسِلُ إليه إشاراتٍ وأُناساً يسألونهُ العودةِ، وفي عودتهِ فرحٌ عارمٌ للجميعِ. إلهنا محبة، والمحبة لا تُفكرُ بالسوءِ أبداً، بل تعتني بكلِ إنسانٍ حتّى وإن كان خاطئاً. إلهنا يُحب الخاطئ ولكنهُ لا يُحب الخطيئة. لم يسأل الأب إبنهُ كيف قضى حياتهُ، وكيف بعثرَ ثروتهُ، بل غفرَ له مُسبقاً، وهذا الغفران مهدّ له طريقَ العودةِ. فالعودةٌ إحتفالٌ وعُرس، ونحن مدعوون لأن نُصليّ من أجل خلاصِ النفوس، بل أننا مدعوون أيضاً إلى مُشاركةِ الله مهمّة البحث عن النفوس الخاطئة، ونفرحُ لعودتهِ، وهو تحدٍ آخر يوجهنا، مثلما كشفَ عنه الأبنُ الكبير.
فنحنُ ننتظرُ ونقبلُ محبّة الله التي تترحمُ علينا، وننزعِج مراراً عندما يتعلّق الأمرُ بالآخرين. ربّنا يسوع أرادَ في قصص الأمثال الثلاثة أن يحكي لنا عن محبّة الله أبيهِ، وهي محبّة مجانية، نعمةٌ وبسخاءٍ، عارفاً أننا مراراً ما نمتلِك صورةً مشوهةً عنها. إلهنا يعرِف أن الخطيئة هي ضياعٌ وموتٌ، مثلما أن التعاملُ مع الله وفقَ مبدأ الأجرِ والمُكافأة هو ضياعٌ عن محبتهِ الأبوية. لذا، فبشارة إنجيل اليوم هي: لنُصحِح هذه الأفكار المشوهة والمشاعر المريضة، وليكن لنا علاقةٌ صحيحةٌ مع الله ومع الآخرين، فننعَم بسلامِ القلب. فإن لم نُصحح أفكارنا عن الله وعن القريب، سيكون تديننا مبعثَ غضبٍ وحُزنٍ لنا، عوض أن يكون مصدر فرحٍ وإبتهاجٍ، بل دعوةُ إحتفال بعيد والاشتراك بوليمة محبة.
إحتجاجُ الابن الكبير كشفَ لنا عن صورة مشوهة عن الله، إذ كان يعتقد أنه خادمٌ في بيتِ أبيهِ، وأن عليه أن يستحق وجوده في هذا البيت، فلم يؤمن بمجانية محبة الأب له، بل عاشَ وفقَ عقليةِ الخادم والسيّد متناسياً الأبوّة والبنوة. ظنَّ إنه عاملٌ بأجرةٍ ولم يقبل محبّة الآب المجّانية، فلم يكن له إستعدادٌ لقبول الآخرين إخوة وأخوات له: "ولما رَجِعَ إبنُكَ هذا"، متناسياً انه أخوهُ. غضبٌ كشف عن ضياع هذا الابن هو الآخر عن محبةَ أبيهِ، فما كان من الأب إلاّ أن يُعيده إلى حياة المحبة، فخاطبهُ يا بُني وليس أيها الخادم أو أيها الأجير، فنحن لا نتعامل في هذا البيت كأجراء أو عمال بعقود بل كأننا متساوين نتقاسم كل ما نملكُ. هذا هو إلهنا الذي بشّرنا به ربّنا يسوع، والذي يدعونا إلى أن نؤمن به. إنه إلهٌ يُحبُّ بمجانية وينظرُ إلى إبنه بعيون المحبة فيقبلهُ مع خطاياه ليتغيّر، لأن المحبّة تُغيّر وتلينُ قساوة القلبِ.
أمام موقف إبنيهِ خرجَ الأبُ ليمنحَ لهم محبتهُ، فأنعمَ بالقبولِ إبناً مُكرماً لأبنهِ الأصغرِ فاستقبلهُ فرحاً وأعدَّ له عُرساً، وتحمّل غضبَ إبنه الأكبر وعلّمه معنى محبّة الأب، فغفرَ لهما معاً سوءَ علاقتهما بهِ. خرجَ الابن الصغير من البيتِ حزيناً راغباً في الحُرية والإبتعاد عن "سلطةِ" ابيهِ، ومكثَ الأبن الأكبر في البيت حزيناً على أنه إبنٌ لأبٍ مثلَ أبيهِ. كلاهما كانا يشعران بعدم الراحة في البيت، ولم يعرفا: مَن هو الأب وأيُّ محبةٍ يكنّها لهما، فهربَ الأصغر مستاءً وبقيَّ الكبر خوفاً وضجراً. ولأن ربّنا يسوع المسيح أرادَ أن يُبرِزَ محبّة الأب للجميع، أعلنَ بُشراه السارة: الله الآب يفرح بالإنسان القريب منهُ، حتّى لو أخطأ الإنسان، أو تعبّد له مُكرهاً، فالله بمحبتهِ القديرة قادرٌ على أن يجذبهُ له في الوقت الذي يُريدهُ هو. محبة الله وأمانتهِ هي التي تمنعُ الإنسان من الموت بسبب خطاياهُ.
إنجيل اليوم هو إنجيلُ التوبة، وهو يدعونا أولاً إلى تصحيح مفاهيمنا عن الله، الله المحبة والرحمة. هذه الصورة ستحدد طبيعة علاقتنا به وعلاقتنا بالناس من حولنا. إلهنا ينتظرنا لنُجدد بناء علاقتنا به، علاقة أبٍ بأبنائهِ، من خلال بناء علاقة أخوّة مع مَن نتقاسم معهم الحياة، فإذا تذكرنا أن لنا إخوة، سنؤمن بأبوّة الله، الذي وهبَ لنا جميعاً الحياة بمحبة مجانية، وينتظرنا أن نُبادلهُ هذه المحبة بمجانية أيضاً، إذ لا نفعَ من إيمانٍ خالٍ من المحبة لله وللقريب. وعندما يعُصبُ علينا تجديد هذه الصورة تأتينا البُشرى السارة: الله نفسه عزم على رسمِ صورتهِ فينا بيسوع المسيح: الكلمة صارَ جسداً وحلَّ بيننا، ليُبشرنا بأبوّة الله المُحبة. أبوة فيها فيضٌ من محبة مجّانية مثلما يُقدمها الأب لأبنهِ البكر ويُعيدها إلى الأبن الأصغر، من دون أن يُعاتبهُ.
بشارة ربّنا اليوم لنا هي أن إلهنا هو محبةٌ لا متناهية، وهذه المحبّة تجعلهُ جوالاً يبحث عن الإنسانِ ليُعيده إلى ذاتهِ، وفي عودتهِ فرحةٌ كبيرة. بشارة اليوم دعوة لنا لنُشارِكَ الله بحثهُ هذا، فنُصلي لتوبةِ الخاطئين وعودتهم، وهذه الصلاة لن تُرتفعَ بصدقٍ إلا من قلبٍ أحسَّ ببعدهِ عن الله، واختبرَ نعمةَ العودة، فيُصلي ليعودَ الجميعُ إلى رعيّة الله الآب الحنون.
الأحد الأول من الصيف
الرحمة والتواضع مطلبٌ أساسي للملكوت (لوقا 14: 1- 14)
الرحمة والتواضع مطلبان أساسيان للدخول في ملكوت الله الذي بشّرنا به ربّنا يسوع المسيح.
فالرحمة تصلُ قلبَ الله لأنه محبّة، والتواضع يجعل الحياة كلّها مسكناً له، وتقدمنا ربّنا يسوع على هذا الطريق، فكان رحوماً ومتواضعاً. رحوما عندما حرر الإنسان من أسره الروحي والجسدي فشفاه وأطلقهُ مُعافى. لقد دخل بيتَ أحد رؤساء الفريسيين ليدعوه إلى أن يقبلَ ملكوـت الله، فوجدهُ أسيرَ "تدينهِ"، فشفى المريض ودعى الفريسي ليقبلَ نعمةَ الشفاء من أمراضهِ الروحية ويرتاح في يومِ السبتِ، يوم راحةِ الله. فيوم السبت ليس يومَ "بطالةٍ" تامّة، بل هو يومٌ نُقدِمُ فيه المجدَ لله.
حافظَ ربّنا على قُدسية السبتِ فجعلهُ إحتفالية لقاءِ الله "الطيّب" بالإنسان المُهان. هذا اللقاء هو لقاء شُكر، ولنا ان نتخيّل اليوم مشاعرَ الشُكر التي عاشها المرضى وهم يُشفونَ يومَ السبتِ، يوم راحةِ الله، لأنهم شعروا أن الله قريبٌ منهم بيسوع المسيح، المُحِب والرحوم، وهذا ما لم يفهمهُ الفريسيونَ الذين طلبوا تطبيقَ قانونَ يوم السبت متناسين الإنسان الذي أحبهُ الله وخلقهُ على صورتهِ ومثالهِ. فإذا أرادَ الله أن يحمي الإنسان من عبودية العمل ليقفَ أمامهُ حُراً مُعافى من أسرِ الإدمان على العمل، وهذا لأنه أحبّه، فكيف يُمكن لربّنا يسوع أن يتركَ الإنسان أسيرَ المرضَ؟ "السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت" (مر 2: 27).
يجتهِد الإنسان في حياتهِ ليكون الأول، وهو طموحٌ مشروعٌ، ولكنه، ولأجل أن يكون الأول، يتصارعُ مع أخيه الإنسان، ويُديم سلطان الشّر والخطيئة. ربّنا يسوع لم يُلغِ هذا الطموح في أن يكون الإنسان "الأول"، بل غيّر المسيرة، وجعل التواضعُ وخدمَة الآخر الطريق لتحقيق هذا الطموح. فالإنسان المتواضِع يعرِف نفسهُ جيّداً، وهو واعٍ لما أنعمَ به الله عليهِ من مواهبَ، وهو صادقٌ مع ذاتهِ يعترِف بخطاياهُ، مؤمناً برحمةِ الله التي تقبلهُ وتهبُ له الفرصة تلو الأخرى ليشهدَ لخلاصِ الله، فيسعى ليعيش حياة الله على الأرض، ويجعل حاجات القريب أولاً ويجتهدِ ليُتمّها ليكونَ القريبُ سعيداً. لا يبحثُ في ذلكِ عن مديحٍ أو إطراءٍ أو مكافأة، بل يشهدُ لمحبّة الله التي خلّصتهُ وجعلتهُ معافى من كل مرضٍ، لاسيما الأمراض الروحية.
المتواضِع، إنسانٌ ينسى ذاتهُ ويفتكِر بالله وبالقريب، ويرغب في أن يهبَ له الأماكن الأولى حيث تكون الخدمةُ مميزة. هكذا يتميّز المسيحي في مواقفهِ، فهو إبن ملكوت الله فيعيشَ، على مثال ربّنا يسوع المسيح، المحبّة بمجانية وسخاءٍ، ويختبِر الجميع حياة الأخوّة. ويتعامَل بالرحمة معه، والرحمة تصل قلبَ الله، ومطمح الإنسان هو أن يكون مع الله الآب، وأن يهِبَ لله "المكانة الأولى" في حياتهِ، ولا "يغتصِب" مكانة الله فيدينَ الآخرين إنطلاقاً من تدينهِ.
يُعلّمنا آباؤنا الروحيون، أن الشيطان قادرٌ على محاربة الإنسان في كل الفضائل، إلا التواضع، فهذه الفضيلة مُستحيلة عليه. هو قادرٌ أن يكون مُحباً وصادقاً ونزيهاً وأميناً بحثاً عن مجدٍ شخصي، والحال، أن المتواضع لا يبحث عن مجدهِ، بل عن مجدِ الله والقريب. يُحكى عن راهبٍ تقيّ جرَّبه شيطانُ الكبرياء. فصلّى إلى الله طالباً العون، فمدّه بطريقة بطريقة ذكية لمحاربة الشيطان، إذ كتبَ على جدار قلاّيتهِ العبارات الآتية: محبة الله، التواضع، القداسة، الطهارة، الفرح ... فكان كلّما جرّبه الشيطان، يلتفت إلى الجدار ويقول لنفسه: تعالي نفحصُ الحقيقة: هل تُحبين الله حقاً؟ هل تسيرين في طريق القداسة؟ هل كان فرحُك حقيقياً اليوم؟ ... ويختُم: يا نفسي إنك بعيدة من هذه كلّها، وهكذا، كان مراقباً على قلبهِ وحياتهِ، منفتحاً لعملِ الروح القدس فيه، ليكون دوماً مثلما يُريدهُ الله أن يكون: إنسان الحقيقةَ.
العلاقة الحقيقية مع الله تُعرّفنا بخطايانا وبحاجتنا الكبيرة إليه، وتجعلنا رُحماء مثلهُ. وكل تديّن يدفعنا إلى إنتقاد الآخرين والحكمِ عليهم، هو تدين خالٍ من الله، لهذا علينا أن نحذر منه، لأن هذا التدين يدفعنا إلى الجلوس في مكان الله، والحكم على الناس، والبحث وعن المجد الشخصي. تدينا وتقوانا يُصبح رياءً، وأفعال الخير والإحسان التي نقوم بها تصبح سبباً دينونتنا. ربّنا يُعلّمنا أن السلام سيغيبُ عن قلبِ الإنسان الذي يبحث عن المكانة الأولى وعن التميّز ومديح الناس وإطراءهم. أما مَن يبحث عن مجد الآخرين ومنفعتهم، فهذا هو إنسانُ السلامُ لأنه يسكنُ في الله، الذي تركَ مكانتهُ ونزلَ ليخدُم الإنسان.
تعليمُ ربّنا يسوع هذا لم يكن لأنه حصلَ على حكمةٍ بشرية متميزة، بل لأنه الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، ثالوثٌ يبحثُ فيه كل أقنومٍ عن مجدِ الآخر لا مجدهِ هو. هو يُعلّم ويُعرف الإنسان بحياة الثالوث الأقدس، والأهم يُريد من كنيستهِ أن تعيش حياة الثالوث هذه، والتي فيها يُمجدُ الآب الابنَ، ويُمجدُ الابنُ الآب، ويُمجد الفارقليط الابن، وهكذا لا يُمكن للحسد أن يدخل في مثل هذه الكنيسة.
الإنسان الذي يُعطي الله المكانةَ الأولى في حياتهِ سيكون لطيفاً وحليماً، ويتنازل بفرحٍ من أجل خير الآخرين، ولن يكون عنيداً أو خشنا ًفي تعاملهِ معهم، ولن يسعى إلى التسلّط عليهم، وسيرحمهم ويُصلي من أجلهِم إذا أخطأوؤا المسيرة، لأنه يعرِف أنه محبوب من قِبل الله الذي رحمهُ وغفرَ له، بل صارَ قُرباناً ليكون في خدمةِ الإنسان.
درسُ اليوم هو: أن يكون الله الأول والأهم في حياتنا، فنكونَ رُحماء مع أنفسنا ونخلّصها من همومها وقلقها، وأن نكون متواضعين ونعمل الخير لا ليرانا الناس ويتحدثون عنا، بل لأنه خيرٌ وهو يُرضي قلب الله الطيّب.
الأحد السابع من الرسل
دخول الباب الضيّق (لوقا 13: 22- 35)
"إجتهدوا للدخول من الباب الضيّق"، هذه هي بشارة إنجيل ربّنا يسوع اليوم، وأولُ ما يجب علينا فعلهُ هو التخلّص من كل ما يجعل دوخلنا الملكوت صعباً، من كل ما هو بعيدٌ عن إيماننا، وهذا التخلّص هو مؤلِم وقاسي لأنه يتطلّب "أن نترك" ما تعلّقنا به، وما نعتقد متوهمينَ أننا لسنا قادرينَ على العيش من دونهِ. فالباب ضيّق والوقت محدود وعلينا أن نُقرِر لحياتنا: أن نعيش حياتنا على نحو يتعرّف علينا ربّنا يسوع، وهذا التعرّف يعني أن نعيش حياتنا شهوداً له: "أما أنتَ، يا رجل الله، فتجنّبَ هذا كلّهُ، وآطلبَ البِرَّ والتقوى والإيمانَ والمحبّةَ والصبرَ والوداعةَ. وجاهد في الإيمان جهاداً حسناً وفُز بالحياة الأبدية التي دَعاكَ الله إليها وشَهِدتَ لها شهادةً حسنةً بحضور شهودٍ كثيرين". (1 طم 6: 12). فالأمرُ ليس إذاً أن تكون من المعجبين بيسوع، بل شاهداً له وجديراً بحملِ هذا الأسم.
لسنا نحن مَن يُقرر حجمَ الباب وسعتهِ، ولسنا نحن مَن يُحدِد ملامح هوية ربّنا يسوع، فهو لا يعرفنا حسبما نحن نُقدمهُ للعالم، لنقول: إننا نعرفهُ، فمثل هذه المعرفة قد تُصيبنا بالكبرياء (الإنتفاخ)، مما يجعل دخولنا صعباً. معرفتنا ستكون عائقاً أمام التعرّف على يسوع المحبة واللطف والسلام والرحمة والرأفة والتواضع، وهذه المعرفة يجب أن تظهر من خلال شهادة الحياة: يروا أعمالكم الصالحة فيُمجدوا أباكم الذي في السموات". هناك علاقة وثيقة ما بين معرفتنا وتمجيد إسم الله، فكل معرفة لا تقود القريب إلى "تمجيد إسم الله، إلهاً ورباّ"، مثلما أعلنه ربّنا يسوع المسيح، ستكون باطلة، بل سببٌ بقاءنا خلف الباب نطلبُ الدخول.
معرفة ربّنا يسوع تبدأ من الذات، ربّنا يسوع غيّر العالم، فهل سمحنا له بأن يُغيّرنا؟ هل تمكّن من أن ينزعَ عنك كل ما لا يليقُ بالبشارة، أم ما زلت تساومهُ لتُبقي بعضاً من العادات والقصص العتيقة التي تُثقِل مسيرة السير خلفهُ شاهداً. الشهادة له يعني إعلان إسمهِ متجولاً، رسولاً وليس الإتكاء للموائد. سأل أحد الكهنة أبناء رعيتّه عن أجمل لحظات القداس؟ فسمِع لأجوبة عديدة، ولكنه تفاجأ من جواب سيّدة قالت: "الخروج من باب الكنيسة بعد القُداس"! فسألها متعجباً: "هل يُزعجُكِ القداس لمرحلة أنّك تطلبينَ فيها الخروج سريعاً؟ فردّت قائلة: بالعكس: عندما نخرج من الكنيسة نكون رُسلَ يسوع، شهوداً لإنجيلهِ، وعلينا أن نعلِنَ خلاصهُ، ففي ذلك ننال كرامتنا، ويعرفنا يسوع.
لأننا كلّما أكلنا وشربنا من أفخارستيا ربّنا يسوع، ولم ندع هذه الافخارستيا تُقدّس حياتنا، وتُغيّرنا لنكون نحن "أفخارستيا للذين هم حولنا"، سنكون فعلةَ الإثمِ، ولن ندخل باب الملكوت الضيّق. ربّنا يُعلّمنا اليوم لنُدرِكَ خطورة الدعوة التي دُعينا إليها، إذ ليس من السهل أن تكون مسيحياً، لأن المسيحية ليست "بطاقة تعريف: هوية"، والخلاص لن يكون آلياً، أنت معمّذ مسيحي، إذن ستخلُص. المسيحية جهادٌ وصراع من أجل الدخول في بابٍ ضيّق، وسيلاقي المسيحي مخاطِر جمّة، وتهديداتٌ بالموت: "اخرج من هنا فإن هيرودس يُريد قتلَك"، وما أكثر الهيرودسيين الذين واجهتمهم وتواجههم المسيحية. المسيحية تتطلّب إستعداداً وجهوزية ولن تقبلَ بالتراخي أو أنصاف الاختيارات، أو أن نعيش مسيحية المناسبات، الملكوت لن يُوهَب إلاّ لمَن هو جاهزٌ لاستقبالهِ. المسيحية لن تتصالح مع غير المُبالين بدعوتهم، فإما أن تكون مع يسوع، وتسير خلفهُ حاملاً حياتَك بيدك، وإلا فأنت ضدّه. الملكوت يُؤخَذ عنوةً، وقد يكون الثمنُ باهضاً: حياتَك، مثلما فعلَ ربّنا يسوع.
علينا أن نعيش حياتنا المسيحية بتواضعٍ ومحبة ليعرِفنا ربّنا يسوع، وهذا التواضع يتجلّى في أن نقفَ شاكرين الله على نعمهِ، واعدين إياه أن لا نأخذ مكانهُ لندين مَن هم من حولنا، لأننا مسيحيون، مثلما فعل الذي سألهُ: "هل الذين يخلصون قليلونَ؟ فمثل هذا الموقف لا يليقُ بمسيحيتنا. باب الملكوت مثلُ أبواب الكنائس الأولى: واطئُ الإرتفاع وضيقٌ، يجب على الداخل أن يخفض رأسهُ ويدخلهُ بتواضع. وكثيرة هي التضحيات التي عليه أن يلتزمَ بها قبل أن يدخل بيت الله. نحن بحاجة إلى "ريجيم روحي" ليتطهّر القلب من كل ما تعلّق به. مسيحيتُنا بابٌ ضيقٌ لا يُمكن للديانينَ أن يدخلوهُ، ولا يُمكن للمُتظاهرينَ بالتدين والتقوّى أن يدخلوه، ولن يتمكّن الباحثون عن شُهرتهم ومكانتهم بين الناس أن يدخلوهُ، وليس بمقدور أولئك الذين يتسارعون لإنتقاد الناس أن يدخلوهُ. لن يتمكّن مَن يُمثل دور المسيحي ويظهر للناس تقياً أن يدخل باب الملكوت، مثل هؤلاء يكذبون على أنفسهم وعلى الآخرين من أجل الحصول على تقدير العالم حتّى لو ضحّى بيسوع نفسه. والرسول بولس نفسهُ يُؤكد على أن في وسع الإنسان أن يصنع المعجزات، ولكنها لن تُؤهلهُ للشِركة مع ربّنا يسوع ما لم يكن فيه المحبّة.
ربنا يسوع يدعونا اليوم: ألا ننشغل بدينونة الآخرين وأن لا نتدخل في شؤون الله، لأنه هو وحده يعرِف قلوب الناس وأفكارهم. علينا أن نسعى ليعرِفنا ربّنا يسوع بأعمال المحبة والإحسان التي نُقدمها له عُربونَ شُكرٍ على نعمهِ.
الأحد السادس من الرُسل
كل سنة من الحياة هبةٌ من الله (لو 12: 57- 13: 17)
سأل الكرام صاحب الكرِم أن يُمهلهُ سنة أخرى ليتعامَل مع الشجرة الغير المثمرِة علّها تأتي بثمارٍ، وإلاَ فلتُقطَع. إلهنا وملكنا هو صاحب "الفرصة الأخيرة"، وعلينا أن نقرأ علامات الأزمنة فلنا فيها رسالة، فنحن لسنا قادرينَ على تجنّب الحوادث الطارئة التي نختبرها، لكننا واعون لحقيقة أن الحياة، ومهما، طالت فهي قصيرة، وعلينا أن نستعد لمواجهةِ الله في أية ساعة، ومن دون سابقِ إنذار، فكونوا مُستعدين لأنكم لا تعلمون الساعة. فمثلُ شجرة التينة الغير المثمرة يدعونا لنتأمل في عطيّة "السنة الأضافية" التي تُوهَبُ لنا. لنفتكِر بهذا، لو قيلَ لنا: أمام سنة واحدة فقط للعيش على هذه الأرض، وهي سنةُ رحمةٍ من الله، تُرى ما الذي نُريد أن نفعلهُ في هذه السنة؟ ما القضايا التي ستُفكِر في حسمها؟ هل سيكون لك نفس المواقف التي لكَ الآن مع هذا وذاك من الناس؟
بالنسبة لربّنا يسوع هي "السنة المرضية لله" مثلما أعلنَ في الناصرة: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ" (لو 4: 18-19). هي سنة التحرر والغفران والمُصالحة. فإذا كان َالله رحوماً وصبوراً وأعطنا سنةّ أخرى في الحياة، فهذا لأنه محبّة، علينا أن ننتبهِ ونقرأ علامات الأزمنة: حوادث طُرق، أمراضٌ مُستعصيةٌ، زلزالٌ، إنفجاراتٌ ... وغيرها من الكوارثَ الطبيعية أو من سوء استخدام الإنسان لحريّته، وهي ليست عقاباً إلهياً، وعلينا عدم مضيعة الوقت في التأمل في أسبابها ومُسبباتها، بل كلّها تُشير إلى حقيقةٍ أننا سنواجه الله في أية لحظة من الحياة، وعلينا أن نكون مُستعدين لهذه اللحظة. كيف؟
التحرر من كل ما يأسرُنا، فالمرأة المنحنية كانت أسيرة لثمانية عشرة سنةٍ، ووجدت في ربّنا يسوع الفرصة للتخلّص من هذا الأسر وإلى الأبد، فتقدّمت ليراها ربّنا يسوع مؤمنة مثل إبراهيمَ الذي تركَ كلَّ شيءٍ طاعةً لله، فنالت الشفاءَ.
قالَ عنها ربّنا يسوع: "الشيطان ربطها، أي أسرها" مع أنها كانت منحنية لا تستطيع أن تنتصب وترفع رأسها إلى السماء وتُصلي إلى الله، في إشارة واضحة إلى حقيقة القطيعة التي تختبرها في علاقتها مع الله. فأقتربَ منها ربّنا يسوع، وتحدّث إليها وخلَّصها من أسرها وأطلقها معافاة، وأتاحَ لها فرصة أن تُمجّد الله وهي منتصبة تحظى بالكرامةٍ. لم يسألها عن أسباب المرض بل مدَّ يدهُ بمحبةٍ. شعرَّ ربنا بألمها، مثلما يشعر بألم كل إنسانٍ حزين ومهموم ومريض روحياً، ويعرِف أنها بحاجة إلى أن تسير على نحو صحيح، وتترك عصاها وترفع رأسها نحو لله الآب، ولكنها غير قادرة على ذلك ولها أسبابها التي لا يسأل عنها ربّنا يسوع، ولكن يُقدم لها ما هي بحاجةٍ إليه: تمجيدُ الله.
والآن كم منّا يعيش المرض الذي عاشتهُ هذه المرأة؟ لربما لسنا مرضى مثلها بالجسد، لكننا مأسورون بالكثير من المشاكل والأزمات والقصص من الماضي العتيق، والتي تجعلنا مرضى مزمنين. أمراضٌ تُصيبٌ أرواحنا وتقطع علاقاتنا مع الإخوة والأخوات والأصدقاء والمعارف، ولربما مع الله؟ كم من مشاكل وأزمات مازالت تأسر حياتنا بسبب ثرثرات وقضايا باطلة؟
اليوم يمد ربّنا يسوع يده ويُريد أن يشفينا منها وإلى الأبد. فهل سنُضيّع الفرصة في البحث في الدفاتر العتيقة عن أسباب هذه المشاكل ومُسببتها، حان الوقت للشفاء، للغفران وللمُصالحة. نحن اليوم بأمس الحاجة إلى أن نقبل عطية ربّنا يسوع لنا: الشفاء الذي يعرضهُ علينا. بحاجة إلى أن نتخلّص من كل القصص المريضة التي تأسر حياتنا، وتجعلنا نسير بلا إستقامة، متعبين ومرهقين. فينا أمراضٌ جسدية، لكن أمراض قلوبنا هي أكثر من أن تُحصى، لذا، نحن بحاجةٍ إلى أن نسمع كلمة ربنا الشافية: ""يا أمرأة أنت معافاةٌ من مرضِك". ربّنا يطلُب منّا أن لا نُفكر في ماضينا وأزماتهِ ومآسيه فحسب، بل أن نتطلع إلى المُستقبل الذي يحمل لنا البركات وطاقات التحرر من كل ما ليس بضروري لحياتنا. لقد صرنا أشبه بسفينة مُثقلّة بالأحمال لا تقوى على مواصلة السير وسط أمواج هذا العالم، إلا إن كان لنا الشجاعة للتخلي عن ما هو ثانوي من الأشياء المكدسة عليها ومن سنوات طويلة. قلوبنا مثلها مثقلة بقصص وحكاياتٍ فيها كل شيءٍ إلا الله، فيعوزنا جداً أن نكون حاضرين في يوم الربّ، لنسمعَ كلمتهُ الشافية: "يا أمرأة أنت معافاةٌ من مرضِك".
دعوة الرب لنا اليوم صريحةٌ: أمامك سنة واحدة فقط لتواجه الله الآب، فأنتصب وكنُ إنساناً حُراً ومُستعداً لهذا اللقاء.
الأحد الخامس من الرسل
لا كرامة للإنسان إلاَّ مع الله (لو 12: 13- 21)
ظنّ الغني الغبي أنه قادرٌ على إدارة حياتهِ مثلما يشاء، ويمكنه أن يُقرر مُستقبلهُ مُتعلّقاً (مُلتصقاً) بأملاكهِ ومتوهماً أنه ليس بحاجةٍ إلى القريب، مثلما ليس بحاجةٍ إلى الله. هو "جاهل" لأنه إعتقدَ أن لا وجودَ لله: "قال الجاهل في قلبه: "ليس إله" (مز 14: 1)، وجهلهُ وصلَ به إلى مرحلة ظنَّ فيها أن بإمكانهِ أن يضع ثقتهُ (أمنهُ) بما جمعه من أموالٍ ويتنعمَّ بها وكأنَّ هذه الأموال كفيلةٌ بأن تؤمّن له حياة هانئة ولسنواتٍ طويلةٍ. فقالَ عنهُ ربّنا يسوع: "إنهُ جاهلٌ"، لأن قلبهُ كان متعلّقاً بما لهُ وليس بالله.
كما وتناسّى الجاهلُ أيضاً أن الحياة أعطيتَ لنا هبةً (عطيّة) نُعيدها إلى الخالِق واهبها، لذا، ذكّرهُ الله قائلاً: "يا غبي، في هذه الليلة تُستردُّ نفسك منك"، وعبارة "تُسترد" تشير إلى أن أحدهم جاءَ ليطلبَ ما هو له. فما أُعطي له كان "إعارة وقرضاً" وجبَ أن يُعيده في الوقت الذي يشاءُ المُعطي أن يستردهُ. لقد فكّرَ في أن يوسّع مخازِنَ الحبوب، وتناسى أن يخزنُ له في الله وفي قلوبِ الناس من حولهِ المحبّة التي تُنقذهُ من عبودية الذات، وتجعلهُ ينامُ الليل مُطمئنَ البال، لأنه آمنٌ في راحةِ الله.
عالمنا الإنساني وتاريخهُ يشهدُ لحقيقةِ أنه كلّما أفتخرَ الإنسان بقدرتهِ على العيش من دون الله، كلمّا زادت شرورهِ وأفسدَ الأرض وأهانَ القريب سواء أكانَ ذلكَ بإرادتِه أم بغير إرادتهِ. فالغني، وكلُّ إنسان، يتعلقُ بالهبةِ وينسى الواهِب، عاشَ ظلمةَ العقل والقلب عندما ظنَّ أنه قادرٌ على العيش والإستمتاع بالحياة من دون الله، ومن دون مُشاركة الآخرين، فلم يظهرَ من القصّة أن له أصدقاء يستشيرهم أو يستأنس بإرائهم. كان غنياً مع أموالهِ ومع نفسهُ وفقيراً بالله، فصارَ جشعاً وجعلَ من ذاتهِ معبودًا يُقرّبَ لها القرابين، فلم يرى الله في حياتهِ. وعندما يصبحُ الإنسان جشعاً سيتصرف بخبثٍ ويُعادي أقرب الناس إليه، ويتراكض خلفَ المال ليجمعَّ المزيد وسيكذبُ ويحتال ويسلكُ بمكرٍ مع الآخرين، حتّى مع نفسهِ، ولا يُوقفهُ شيءٌ من أجل تحقيق المزيد من المكاسب، حتّى لو أُضطرَ لقتل الآخرين.
إلهنا، وبتدبيره الأبوي المُحِب، ينعِم على جميع الناس بالمواهب، ولا يوجد على الأرض من يخلو منها، حتّى الفقير والمعدوم له موهبةُ نشكرُ الله عليها، فالفقير قادرٌ على أن يُخرِجَ كل ما هو طيّبٌ وحسنٌ ومُباركَ من حياتنا بفعل الإحسان المُحِب الذي نُقدمهُ له. كما وبيّن ربّنا يسوع المسيح أن الخطيئة ليست في جمعِ الأموال، بل في السبب الذي من أجلهُ تُجمَع هذه الأموال؟ في الاستخدام الأناني للمال؟ في الإستخدامِ السيءِ له؟ فالغنى بركة من الله وهو الذي أنعمَ به على كثيرين مثل إبراهيم (تك 13: 2)، وإسحق (تك 26: 13)، وأيوب (42: 12)، وداود (1 أخ 29: 28)، وسليمان (1 مل 3: 13)، لكنهم لم ينسوا مَن أعطاهم هذه البركة: الله، في حين أن الغني في المثلِ الوارد في الانجيل تناسى الله، وهذه كانت خطيئة هذا الجاهل وتعلّق قلبهُ بأمواله فأضحى جشعاً. عندما يتعلّق الإنسان بالموهبةِ وينسى الواهِب، عندما يُعلِنَ صريحاً رفضهُ لله، وإيمانهُ بنفسهِ، والحياة كلّها متوقفةٌ على الإجابة على هذا السؤال: "أتؤمِن بالله"؟ أرني ذلك في شهادة الحياة!
طلبَ الأسكندر المقدوني الذي سيطرَّ بجبوشهِ على أراضٍ شاسعةٍ في العالم، أن يحملَ نعشَهُ أطباؤه، وأن تُنثرَ امامِ نعشهِ قطعٌ ذهبيةٌ، وأن تبقى يداه مفتوحتانِ خارج التابوتِ. فسألوه عن معنى هذه الطقوس؟
فقال: ليعرفَ الناس إنه مهما حاولنا تجنّبَ الموت، فهو آتٍ لا محالةَ، ولن يُوقفهُ أشهر الأطباءِ، وأن ما جمعناه من مالٍ هباءٌ منثورٌ، وإننا ندخل الحياة ونخرجُ منها فارغ اليدين.
علّمنا ربنا يسوع أن محبّة الله الآب تتغلّب على الموت، هذه المحبّة أعطت لنا الكرامةّ عندما خلقنا على صورتهِ ومثالهِ، نُحِبَ ونُبارِك. فصرنا قادرونُ بنعمة الله على أن نملءَ أيدينا من بركات محبّة الفقراء والمعوزين الذين نتقاسم معهم خيرات الأرض وما أُعطينا من مواهبَ، والتي ستهبُ لنا المُشاركة في الفرح السماوي.
ربّنا يسوع يُعلّمنا أن المالَ والغنى أُعطي لنا ليكونَ وسيلة نُسعِد بها حياة الفقراء والتعساء من حولنا، وسنة الرحمة فرصة لنا لنُعبّر عن إيماننا وأن قلوبنا آمنةٌ بالله وبمحبتهِ. فلنوسّع قلوبنا لتحتضِنَ إحتياجاتهم، ونملء أهراءَنا من صلاة المساكين ودعاء الفقراء لنا، فيكون الله كنزنا الأوحد.
ربنا يسوع يدعونا اليوم إلى الإيمان بالله الآب، فالإنشغال (المهموم) بالمال أو بتحقيق الإنجازات علامة على نقص في الإيمان وقلّة الثقة بالله الآب. ربنا يسوع يدعونا إلى التأمل في الطبية التي من حولنا فهي تُنشدُ تدبير الله ومحبتهِ، فإن كان الله مُحباً مع الطيور والنباتات، أفلا يعتني بمُحبيهِ؟
الجواب على هذا السؤال سيُحدد مسارَ حياتنا!
الأحد الرابع من الرُسل
أختيار الرسل الإثني عشر (لوقا 6: 12- 26)
صعِدَ ربّنا يسوع الجبل ليُصلّي إلى الله الآب، وبعد أن قضّى الليل كلّه في الصلاّة دعا جماعة التلاميذ ليصعدوا الجبل فأختارَ منهم إثنا عشرَ تلميذا وسمّأهم رُسلاً. اختيار التلاميذ إذاً جاء بعد صلاةٍ طويلة إلى الله، هم ولدوا في صلاة يسوع، اي، ثمرةُ حوارٍ عميقٍ مع الله الآب. دعوتهم ليست دعوة من الأبن فحسب، بل دعوة الله الآب الذي اختارهم ليُواصلوا الرسالة التي بدأها ربّنا يسوع المسيح. بعدَ أن تعلّموا منه لأنهم بقوا معهُ وعرِفوا أن ربّنا يسوع أتى ليُتِّمَ ما بدأهُ الله مع الإنسان، فلم يُقدِم تعليماً، بل جاء ليعيشَ هذا التعليم في شهادة حياتهِ.
إستجاب الرُسل لدعوتهِ هذه، وكرّسوا له حياتهم كلّها. تبعوه حيثما سارَ وتقاسموا معهُ خبرات الحياة بما حملتهُ من صعوبات. بعد أن كانوا يشتغلون لينالوا لقمة العيش، سمعوا النداء الذي دعاهم ليتخلّوا عن كلَّ شيءٍ ويعرضوا حياتهم للجوع والرفض والإذلال والحرمان ليكونوا مع ربّنا يسوع المسيح، مع الله الآب. فمن أجل يسوع هم فقراء وجائعونَ وحزانى ومُضطهَدونَ. لذا، نالوا التهنئة (التطويبة) لأنهم أطاعوا المسيح من دون أن يطلبوا ضمانات دنيوية ومن دون أي محاولة للتوافق أو التكيّف مع ما يُريده العالم. هم كلياً للمسيح يسوع من دون رجعةٍ أو إنقسامٍ.
ما يُميّز جماعة التلاميذ إذاً هو "فعل الطاعة" الذي جعلهم يلتصقونَ بالمسيح يسوع، والذي وهبَ لهم نعمة أن ينظروا إلى العالم ملثما ينظر يسوع. هم مساكين وفقراء مثل معلّمهم، ليس لهم موضعٌ ليستريحوا وتركوا من أجل المسيح كلَّ شيءٍ، حتى حقوقهم الشخصية. هم يتأملون أفراح العالم الزائلة ويحزنون لأجل الناس الذين يتصارعونَ على تفاهات الخيرات الأرضية، ويقتلون بعضهم بعضاً متناسين ومتنكرين الحقيقة الأسمى: "ملكوت الله": "إطلبوا ملكوته، وهذه كلّها تزاد لكم" (لو 12: 30- 31). هم ينظرون إلى العالم الخاطئ ويشعرون بالحزنِ لأجلِ العالم. قلبهم يتوجّع من "تنكّر" العالم لله، لأنهم يُحبونَ العالم، ومحبتهم ليست تعلّقاً بالعالم، بل "شفقة الأم" التي تلحظ ضياع إبنها، فتتمنّى الضياع بدلاً عنه ليبقَ إبنها سعيداً، هكذا يعيشون الرحمّة التي نالوها نعمةً من الله الذي تجسّدَ وتحمّل الألم والصليب والموت من أجلهم، لينالوا هم غفران الخطايا والكرامة والمجد.
جماعة التلاميذ جماعة وديعة تحيّا من أجل المسيح ولا تبحث عن مديح شخصي أو امتيازاتٍ أو كراماتٍ خاصّة. جماعة تتحمّلُ الألم والصعوبات، بل العنفَ والإضطهاد والرفضَ من أجل المسيح يسوع من دون أن يتباكوا على ظلمِ الناس لهم ولا يسعون للإنتقام، مؤمنونَ أنهم آمنونَ في الله الآب الذي سينال لهم حقوقهم، وسيهبُّ لهم الله الأرض كلهّا، فهاهم يُذكرونَ مُطوبين على مذابح الكنائس في العالم كلّه، بدءً من الرسول بولس، الذي كتبَ: "يُضَيَّقُ علَينا مِن كُلِّ جِهَةٍ ولا نُحَطَّم، نَقَعُ في المآزِقِ ولا نَعجِزُ عنِ الخُروج مِنها، نُطارَدُ ولا نُدرَك، نُصرَعُ ولا نَهلِك، نَحمِلُ في أَجسادِنا كُلَّ حِينٍ مَوتَ المسيح لِتَظهَرَ في أَجسادِنا حَياةُ المسيحِ أَيضاً. فإِنَّنا نَحنُ الأَحياءَ نُسلَمُ في كُلِّ حينٍ إلى المَوتِ مِن أَجلِ يسوع لِتَظهَرَ في أَجسادِنا الفانِيَةِ حَياةُ يسوعَ أَيضًا" (2 كور 4: 8- 11)، ووصولاً إلى تلاميذ ورُسل كثيرين يعيشون اليوم الشهادة للمسيح بأصدَق صورها. فالقديسون هم المفسرون الحقيقيون للكتاب المُقدس مثلما يقول البابا بندكتُس السادس عشر، لأنهم عاشوا الكلمة حتّى في ساعات الضعف.
اليوم، نحن مدعوون منذ عماذنا، كلُّ بإسمهِ على مثال التلاميذ لنكونَ رُسلَ المسيح يسوع، فعلينا أن نستجيبَ لهذه الدعوّة في تلمذة صادقة وأمينة خلف ربنا يسوع، والشهادة لهذا الاختيار في كل جوانب حياتنا. فلا يوجد وقتُ فيه يُمكن التخلّي أو التنازُل عن اختيارنا هذا، حتّى في ساعات الخطيئة التي فيها نحبُس فاعلية الروح القُدس فينا.
اليوم نحن مدعوون لأن نرفض حضارة التملُك والشهرة وتمجيد الأنا (الأنانية) التي تغزو عالمنا وتدمّر علاقاتنا الإنسانية مع الآخرين، ونشهدَ لحضارة محبّة الآخر التي تُخلِّص الأنانية من أمراضها، وتنفتح لفعلِ الروح القُدس.
اليوم، نحن مدعوون لأن نكون متميّزين ومتمايزين عن سلوكيات العالم الذي يرفض التمايُز ويُريد أن يرتدي الجميع الثياب التي يختارها لهم، لاسيما ثياب التنكّر لله والتشبهُ بالعالم. نحن نُطالِب أبنائنا ليجتهدوا ليكونوا ذا شأنٍ عظيمٍ في المُستقبل، ولا نُفكِر في حثهِم ليكونوا رُسلَ المسيح، ليكونوا قديسين.
صلاتنا اليوم إلى يسوع ليحمِل بيوتنا وعوائلنا وأبنائنا في صلاته إلى الله الآب، ويُقدسها بحضورِهِ الشافي، ويجعل منها هياكل مُقدسةِ.
عظة إحتفالية تتويج العذراء
"تُعظم نفسي الرّب ... سوف تُهنئني جمع الأجيال"
غمرَّ الروح القُدس إليصابات فصرخت: "مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ! مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ إبتِهاجاً في بَطْني فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ" (لو 1: 42- 45)، كانت إليصابات أولَ مَن هنّأ أمنا مريم بعد تهنئة الملاك لها في البشارة: "إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ" (لو 1: 28). إكرامنا اليوم لأمنّا مريم ليس إذاً إلاّ إستجابةٌ لطلّب الروح القُدس الذي ألهمَّ إليصابات وأمنّا مريم التي أنشدت: "تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال" (لو 1: 46- 48).
فعندما نُكرِمُ أمنّا مريم فهذا لن ينتقص من عبادتنا لله الآب الذي صالحنا بإبنهِ يسوع المسيح. هذا الخلاص هو لكلِّ مَن يؤمِن به. إليصابات تعترِف أولاً بأن مريم آمنَت "فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ"، "والبار بالإيمان يحيا" (روم 1: 17). ومريمٌ نفسها تعترِفَ وهي تختبرُ نعمةَ الله بوفرةٍ؛ أن الله القدير هو الذي بادرَ وإختارَ وقدّس لأنه محبّة و"رحمتهُ من جيلٍ إلى جيلِ لخائفيهِ" (لو 1: 49). فتهنئتُنا لأمنّا مربم تتجاوب مع ما يُلهمهُ الروح القُدس مثلما أوحاهُ لنا في الكتاب المُقدس. فإذا حسُنَ لله الآب ذلك، أن يُكرِمَ قديسيه الذين كشفوا لنا عن عظيمِ محبة الله ورحمتهِ وطيبِ محبتهِ وجمالها، وسمحوا للروح القُدس أن يصنع فيهم ومن خلالهم المعجزات، وأولّها كانت: إهتدائهم وتوبتهم له، فأرضوهُ على الأرض، فمَن نحن حتّى نعترِضَ على إرادةِ إلهنا الذي تجسّد ليُشاركنا الحياة، ما عدا الخطيئة، حتّى نُشاركهُ الكرامةَ والإكرام؟
إيمان أمنّا مريم والذي يعني طاعتها وإستسلامها التام لإرادة الله وإستعدادها للسير في الطريق الذي اختاره الله لها مُصلية وخادمةٍ بصمتٍ من دونِ تأجيلٍ أو إبطاءٍ، هو الذي أهلّها لتنال تهنئة الأجيال وتهنئتنا اليوم. إيمانها بأن الله القدير على أن يُغيّر وجه الأرض إن آمنَ الإنسان بمحبةِ الله ورحمتهِ فإلتفتَ بعين الرحمة على أخيه الإنسان وتغلّبَ على الأنانية والعنف والخطيئة التي تجبرّه إلى ذاتهِ بعيداً عن إخوتهِ المحتاجين. لذا، نذكر في قانون إيماننا إسمان فقط، مريم العذراء التي قبلِت كلمة الله بإيمان من دون تحفظاتٍ فولدتَ ربّنا يسوع المسيح فصارَ لنا فيه الخلاص، وبيلاطس البنطي الذي تنكّر لكلمة الله وأسلمَ ربّنا يسوع للموت، لتُذكرنا أمنّا الكنيسة دوماً، أننا مدعوون لأن نُقدِم للعالم كلمة الخلاص، أو إننا مجربونَ في التنكر لها، فنُسلِم دماً بريئاً.
"أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لو 1: 38)، هذه كانت إستجابةٌ أمنا مريم لاختيار الله لها ودعوتهِ، فلقد ولِدَت هي أولاً بكلمة الله التي حلّت عليها بالروح القدس، لتحيّا بالله، وكرَّستَ حياتها بكليّتها له، فصارتَ منزلاً له على الأرض، وجعلت تجسدهُ حقيقةً وحضورهُ ممكنا، وفتحت لنا طريق القداسة وهي تدعونا لنسلكهُ تلاميذ أمناء لأبنها يسوع المسيح لأنها لا تُريد أن تحتفِظ بالإكرام لها، بل هي التي تُشير دوماً إلى إبنها، ربّنا يسوع المسيح: "مَهما قالَ لَكم فافعَلوه" (يو 2: 5). إلهنا عزِمَ أن يُكرِمَ أمنا مريم بلسان اليصابات، وهو عازمٌ لأن يُكرِمَ كلَّ مَن يقتدي بها، ليكونَ مكرماً في كلَّ الكنائس، إن عَرِفَ أن يُعطي بسخاء مريم: "الحَقَّ أَقولُ لكم:حَيثُما تُعلَنِ البِشارَةُ في العالَمِ كُلِّه، يُحَدَّثْ أَيضاً بِما صَنَعت هذه، إِحْياءً لِذِكْرِها" (مر 14: 9).
إيمان أمنّا مريم إستحقَ لها إكرامنا اليوم في أن تتوّجَ ملكة الكون. هذا الإكرام يُشجعنا للمُضي قُدماً في تقدمة حياتنا نحن أيضاً في فعل عطاء كلّي لله وللقريب. ففي حياة أمنا مريم إستباقٌ لمسيرة حياة كل مَن يؤمِن بالله، وإتمامٌ لما وعدَّ به ربّنا يسوع تلاميذهُ: "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن آمَنَ بي يَعمَلُ هو أَيضاً الأَعمالَ الَّتي أَعمَلُها أَنا بل يَعمَلُ أَعظَمَ مِنها" (يو 14: 12). أمنا مريم، وعلى حدّ تعبير البابا بندكتُس السادس عشر، هي الخليقة التي، وبشكل فريد، فَتَحتْ البابَ كاملا لخالقها، ووضعت ذاتها بين يديه، بدون حدود. فهي تحيَّا تماما بـ وفي العلاقة مع الرب؛ في موقف من الإصغاء، منتبهة لالتقاط إشارات الله في مسيرة شعبه؛ إنها متجذرة في قصة إيمان وفي رجاء في عهود الله، الذي يشكل نسيج كيانها. إنها تستسلم بحرية للكلمة التي استقبلتها، وللإرادة الإلهية في طاعة الإيمان.
فيا أمنّا مريم،
يأمَن أخترتي أن تكوني خادمة للربَّ، حافظةً كلامهُ ومتأملةً فيه.
وبحثتِ عنه بإجتهادٍ لتكوني دوماً بقُربه فلا يتيهَ عن ناظريكِ.
وأشرتي إلى الخدِمَ ليفعلوا كلَّ ما يأمرهُ إبنُك، ربّنا يسوع المسيح.
وكنتِ معه في طريقَ الألمِ ووقفت إلى جانب الصليب، وقبلتي جسدهُ مؤمنةً بتدبير الله الخلاصي، وكنتِ مع الرُسل، الخادمة المُصلية.
صلَّ من أجلنا، لنفتَح قلوبنا لله، ولنُسرِع في إتمامِ مشيئتهِ، ويكون هو طريقنا الحق للحياة، فلا نتيهَ عنهُ في أفراحٍ زائفةٍ، بل ليملء سلامهُ قلوبنا الفارغة، ويملُكَ ربناّ أوحد. آمين.
الأحد الثالث من الرُسل
محبّة الله ومحبّة القريب (لو 10: 23- 43)
علّم ربنا يسوع التلاميذ والجموع قائلاً: "ما جئتُ لأُبطلَ الشريعة أو ألأنبياء، ما جئتُ لأبطِلَ، بل لأُكمِل" (متّى 5: 17). ربّنا يسوع هو إتمامُ الشريعة وإكمالها، بل هو "شريعة حيّة". عندما سألهُ عالمُ الشريعة عن "أهم الوصايا" يعني السؤال عن: "خلاصة الشريعة والأنبياء"، أجاب ربّنا يسوع قائلاً: "محبّة الله ومحبّة القريب". أن تعرِف الله وتُحبهُ بشكل حقيقي وهذا يقودنا إلى التعرّف على القريب ومحبتهُ أيضاً. لا يُمكن الفصل ما بين هاتين الحقيقتين. فالمحبّة المسيحية ليست نظرية أو تعاليم، بل حياةٌ نشهَد من خلالها أنه لا يوجد في حياتنا آلهةٌ نُكرمُها ونعبدها غير إله ربّنا يسوع المسيح، نُحبهُ ونريد أن يُحبهُ العالَم. وإننا نُحبُّ القريب محبّةً عملية فنصغي إليه ونتعرّف على حاجاتهِ ونستجيب لها قدرَ طاقتنا، والأهم أنها تمنحنا فرصة أن نكون له مسيحاً آخر لهم. تجعل قلوبنا تُعطي أفضلَ ما لديها من طيبة وإحسان وألفةٍ ومودّة فيغدو الضحية هو المُحسِن إلينا وليس العكس.
المحبّة المسيحية مواقف إنسانية مسؤولة ومُكلِفةَ وتتطلّب الكثير من الوقت والجهد، بل تضحياتٌ تُجبرنا على تغيير قائمة أولوياتنا في الحياة، وتوقِف برامجنا الشخصية لأن الآخر بحاجةٍ إليّنا وتعرِض حياتنا للخطر، فتوقفُ السامري عن مواصلة رحلتهِ يعني عمليا، تعرضه لنفس مصير الضحية. يُحكى أن الأم تريزا طلبتَ لقاء القديس البابا يوحنا بولس الثاني فأُعطيَ لها موعدٌ للقائه وحُدِدَت الساعة. وبينما هي متوجهةٌ نحو مكان اللقاء، رأت مُشرداً على الطريق فنزلت وعاملتهُ بالرحمة وأعتنت بأمرهِ، فتأخرّت عن لقاء البابا. وعندما وصلت مكتب البابا، قالوا لها: كيف تتأخرين عن موعد مهم كهذا؟ أجابت إلتقيتُ المسيح في الطريق، وهو الذي أخَّرني عن لقاء ممثلهِ على الأرض.
في قصّة السامري الصالح، لم يسأل ربّنا يسوع معلِّم الشريعة: إذهب وإستفسر عن أسباب الاعتداء؟ ولماذا لم يسلك الضحية طريقا أكثر أمنا؟ وما الذي دفعَ الكاهن أو اللاوي لعدم تقديم المساعدة؟ بل قال: "آمضِ أنت أيضاً وأصنع هكذا". لا تسأل مَن هو قريبي؟ بل قريبٌ مَن أنت؟ في إشارة واضحة إلى أننا مسؤولون جميعاً على التعامل مع نتائج الظلم مثلما نحن مسؤولون عن البحث عن الأسباب التي تقف وراءَ هذا الظلم، ولكن، يبقى الأهم: أن نكون حاضرين بجانب الفقراء والمعوزين لا من أجل مكافأة أو مُجازاةٍ، بل لأنه بحاجةٍ إلى إنسان يقِف إلى جانبهِ، وبذلَكَ أعيش هويتي ودعوتي: "إني مخلوقٌ على صورة الله المحبة"، الذي أشفقَ علينا نحن الخطأة، وجاء ليكون معنا، ويعيش حالتنا، ما عدا الخطيئة، ليهِبَ لنا: "معنى للحياة". إلهنا إنحنى نحونا بيسوع المسيح ليخدمنا، وهو يدعونا لنكونَ خدامأً بعضنا لبعضٍ: "آمضِ أنت أيضاً وأصنع هكذا".
إذاً، تعليم ربّنا يسوع المسيح جاء ليؤكِد على أن محبّة الله ومحبّة القريب حقيقتان متلازمتان، لا يُمكن الفصل بينهما. ولم يُعلم أن أعمال الرحمةِ والإحسان أهم من الصلاة والتأمل في كلمةِ الله، على العكس، أعمال الرحمة هي ثمرةُ علاقةٍ شخصيةٍ مع الله الآب بيسوع المسيح. قدّم لنا القديس لوقا اليوم قصة زيارة ربّنا يسوع لبيت مرتا ومريم بعد قصّة السامري الرحيم، إذ قَبِلَ ربنا يسوع الدعوة لزيارة البيت وأستقبلتهُ مريم بجلوسها عند قدميهِ تسمعهُ وتتأمل كلامهُ، فيما انشغلت مرتا باعداد المائدة للضيف العظيم؛ يسوع، والذي باركَ بيتها، ويبدو إنها إنشغلت كثيراً في إعداد ما يلزم كعادتنا نحن الشرقيين. فجاءت تشكو أختها عند ربّنا يسوع: "يا ربُّ أما تُبالي أن أختي تركتني أخدمُ وحدي؟ فمرها أن تُساعدني!
أجابها ربّنا يسوع: مرتا مرتا، انك منشغلةٌ بإعداد الكثير من الأطعمة، والحقيقة نحن بحاجة إلى طعام واحد. الطعام مُهم، ولكن الأهم هو الذي اختارتهُ مريم، فهي جلست لتقبل منّي الضيافة التي يُقدمها الله من خلالي، فاختارت أن تكون السامعة والمُصغية، وهذا هو أفضل اختيار، لأن الله ينتظر منّا موقف مريم: أن نسمع ونصغي إليه! مريم تعرف مَن الذي دخل بيتها، فأرادت أن تُقدم له ضيافة متميزة: إنتباهٌ مُحبٌ له، وهذه هي الضيافة الأهم، فمثلُ هذه الضيافة تقودها إلى قبول ضيافة الله التي يُقدمها بيسوع المسيح.
فإن فضّلنا محبة القريب، وسعينا الى خدمتهِ من دون محبة الله والسماع إلى كلمتهِ والتأمل فيها سنتحوّل، وبسبب خدمتنا إلى الآخرين، إلى أناس تميلُ إلى دينونة كل مَن ليس مثلنا، ولا يعيشون بنفس أسلوب حياتنا، ولا يسعون لعمل الخير وصنعِ الإحسان الى الانسان. محبة القريب من دون الإصغاء المنتبه والمُحب إلى كلام الله ستجعلنا أناساً يحكمون على الآخرين بالهلاكِ الأبدي إنطلاقاً من تديننا نحن، فننسى الأهم وهو ربّنا يسوع المسيح، لننشغل بما نُقدمهُ نحن من "خدماتٍ" متناسين أنه هو الذي حفّز فينا الشُكرَ لنعمهِ.
محبّة الله تدفعنا إلى الصمت أمامهُ، الجلوس عند قدميهِ، والتتلمُذ له، متأملين عظمتهُ، ومتحررين من انشغالنا حتّى بخدمتنا، لنتعلّم الإنشغال به، هو الحاضر معنا ليُعلمّنا كيف نكون قريبين من الذين هم بحاجةٍ إلينا. لا نسأل: ما الخير الذي فعلهُ فلان لي؟ بل: ما الخير الذي فعلتهُ أنا لفلانِ؟ ففي مثل هذه المواقف ينفتح قلبنا لدعوةِ الله التي تريد أن تُخرجنا من أنانيتنا، فنعطي بفرحٍ.
عيد الجسد
القُربان المُقدس: عطيّة الحياة (يو 6: 35 – 40)
نحتفل اليوم بعيد الجسد، شاكرين عطّية الله لنا بيسوع المسيح الذي يُبارِكنا في حضوره في سرّ القُربان المُقدس، ويدعونا لأن نتناولهِ ليحوّلنا إلى ذاتهِ، هو المحبّة، وجه رحمة الله على الأرض. فعندما نتناول جسدّ ربّنا يسوع، نُعلِن أننا في شرِكة معه، ونقبلُ بملءِ إرادتنا الرسالة المُلقاَة على عاتقنا في أن نكون نحن أيضاً خُبزاً مُقتسماً للعالم. هو سبقنا إلى الله الآب، ويدعونا لأن نتبعهُ لنكونَ في شِركةٍ تامّة معهُ ومع أبيهِ. فالمناولة تُغيّرنا إلى شخصهِ هو، لنكون مسيحاً لكل مَن نلقتيه في حياتنا.
من هنا، إعتاد القديس يوحنّا ماري فيناي دعوة الناس للمناولة قائلا: "تعالوا إلى المناولة.... صحيح انكم لا تستحقونها، ولكنكم تحتاجون إليها"، ونُعلن في كل قداس: "الأقداس للقديسين وللأطهار تُعطى"، عارفين أننا لسنا بقديسين ولسنا أطهاراً أيضاً، لكننا نؤمِن أن ربّنا يسوع المسيح، إذ يُقدِم لنا ذاتهِ، سيُطهِر قلوبنا ويُقدِس حياتنا إن قبلناهُ وسعينا لأن نفتح قلوبنا له ليوحدّنا في شخصه ويفتح أبواب قلوبنا فنرى محبّة الله لنا وقد تغلّبنا على الأنانية التي تأسرُ قلوبنا وأفكارنا. فيكون الله إلهاً أوحدَ في حياتنا.
"خذوا كلوا ... خذوا إشربوا ..." كلمة للحياة. إلهنا عارفٌ بحاجاتنا الإنسانية والروحية. فنحن بحاجةٍ إلى جماعةٍ تقبلنا بمحبّة غير مشروطة لاسيما في عالم متميّز بالأنانية التي طغتَ على مجمل أنشطة الحياة. نحن بحاجة إلى محبّة معطاءة في عالم يظن إنها من المُستحيلات. لذا، يجمعنا ربّنا وإلهنا في كل أفخارستيا ليُعلّمنا أن هذا ممكن، بل هو موجود على المذبح ينتظر كلَّ مَن يقبلهُ بإيمان فيؤلِّف من المٌشاركين عائلة؛ إخوة وأخوات قديسونَ. فلا أفخارستيا من دون جماعة (كنيسة)، لأن الأفخارستيا هي التي تؤسس الجماعة (الكنيسة) وتدُيمها لأن ربّنا يسوع حاضرٌ حقاً في الخُبزِ والخمر اللذان يُقدمَان على المذبح في كلِّ قداس.
هنا، نأتي إلى أهمية التعبّد للقُربان الأقدس، والذي سعت الكنيسة لنشرهِ بين المؤمنين، فتُعيدنا دوما إلى "العشاء الأخير"، حيث إجتمع ربّنا يسوع مع الذين أحبهم، وأحبهم إلى الملء. هناك تُريدنا الكنيسة أن نكون؛ إلى جانبِ يسوع في ساعتهِ، ساعة العطاء الكلّي لله، مُعلناً البشارة: الله هو الإله الأوحد. لذا، فالسجود للقُربان المُقدس، هو إعترافٌ بسيادة ربّنا يسوع المسيح وربوبيتهُ، فلا نعبدُ إلاّ الله ولا نسجدُ لإلهةٍ أخرى، وعندما نسجدُ للقربان المُقدس نعلِن رفضنا لبقية الأصوات التي تدعونا لعبادتِها ونُستهلِك ونُهلِك حياتنا متعبدين لها.
ربنّا يُقدسنا في الأفخارستيا لأن الافخارستيا دعوة إلى القداسة وإلى هبة الذات للاخوة، لأن دعوة كلٍ منا هي أن يكون مع يسوع، خبزاً يُكسر لأجل حياة العالم. وهكاذ يضعُ لنا ربّنا يسوع توجهاً في حياتنا لحياتنا، فنحن نسيرُ على خُطاهُ، في عطاءٍ ذاتٍ مُحِب، مثلما فعلَ هو. هذا التقديس يكون من خلال تطهير القلب من كل التعلّقات التي تُتعبُنا، ويُحررنا لنكونَ أمناءَ معهُ فنكون ما نتناولهُ: "مسيحاً" "أفخارستيا" لمَن نلتقيهم في طريق حياتنا، لكي لا تكون مُشاركتنا في الأفخارستيا وعبادتنا طقوساً شكلية، بل، فعلُ إيمان من قلبٍ مُحبٍ. ربّنا يُريد من خلالنا أن يُغيّر العالم، مثلما غيّر من خلال جماعة الرُسل شكلَّ العالم كلّه.
وإذ نحتفلُ بعيد الجسد هذه السنة في الأسبوع الأخير من شهر آيار والمخصص لإكرام أمنا مريم، نتذكّر بإمتنان هذه الإنسانة التي اختارها الله لتحمل كلمته، كلمة الخلاص إلى العالم. كيف قبِلّت بإيمان هذه الكلمة، وحملتها بتواضعٍ من دونٍ إفتخار، بل إنطلقت إلى بيت أليصابات لتخدُم، فكانت أول من تناولَ بحقٍ، فحياتها تحولّت بحضور الكلمة فيها، وقدّمت جسدها لتكون مسكنِ العلي، ليس فحسب، بل حافظَت على الكلمة وسهرت عليها، لتساعدنا لنعيش إيماننا بأمانةٍ وإلتزام.
الأحد الثاني من الرسل
ربّنا يسوع المسيح؛ وجه رحمةِ الآب (لو 7: 36 – 50)
دخلّت أمرأة خاطئةٌ إلى بيت سمعان الفريسي لتُقدم الشكرَ لله على محبتهِ ورحمتهِ التي كشفها بربّنا يسوع المسيح، وعبّرت عن شُكرها في "طقوس متميّزة" متجاوزة كل الأعراف والتقاليد التي تمنعها من الإختلاط مع "تجمّع رجالي"، حتّى وإن كان الضيفُ مميزاً. هذه المرأة تعرف أن حالة الخطيئة التي تعيشها تمنعها من مخالطة الناس، وتجعل مقابلة المعلّم يسوع الناصري أمراً مُستحيلاً، وإن قابلتهُ كان عليه أن يطردها من المجلِس لأنها خاطئة. لكن ذلك كلّه لم يمنعها من مواصلة المسيرة لأن المحبة التي جذبتها كانت محبّة الله نفسه، والتي دفعتها إلى التقدم نحو ربّنا يسوع. أحبّت ومحبتّها أعطتها القوّة لتواصل السير للقاء ربّنا يسوع، ولم تُوقفهّا خطاياها الكثيرة لأنَّ إيمانها ومحبتها كان أعظم، فقبلَ ربّنا يسوع توبتها، فالخطيئةُ لن تكون سببا يمنعنا من لقاء الله الآب، فقدمّت كل شيءٍ عندها بسخاءٍ تام.
تبعتَ هذه المراة ربّنا يسوع، وإنتظرت الفرصّة التي فيها تُعبّر عن عظيمَ محبتها "لبُشرى الخلاص" التي نادى بها. دخلَ بيت سمعان فدخلت من دون أن يدعوها أحدٌ، وحملَت محبتها السخية فإنحنت تُقبلُ قدميهِ، وتفاجأت بأن سمعان لم يقم بما يلزَم من واجبات الضيافة، فلم تنتقدهُ مثلما فعلَ هو، ولم توبخهُ أو تُحرجهُ، بل راحت تُكمّل هي نقص الضيافةِ، ولم تتراجع عن قصدها وشرعت تُقبّل قدميه المتسختين بسبب الطريق، فأضحت دموع الندامةِ ماءً يغسل قدمي يسوع، ولم تبخل عليه بشيءٍ، فقدمت شعر رأسها، وهو ما تعتزّ به كل أمرأة، ليكون منديلاً يمسح قدمي ربّنا يسوع. تعبدها تضمنَ إيماناً به، وتواضعاً أمامهُ، وسخاءً في العطاء، لأنها قبلت محبّة الله بيسوع المسيح، الذي قدّم للإنسان كل المحبة فبذلَ حياتهُ بسخاءٍ من أجلنا.
أمام هذه المحبّة كشف ربنا يسوع عن هويتهُ للفريسي، فهو ليس نبياً فحسب، بل إلهاً يعرِف أفكار سمعان، وهو قادرٌ على أن يغفِر للمرأة خطاياها الكثيرة، لأنه وجه رحمة الآب على الأرض، ومحبة الآب ترحمٌ وتغفرُ. ما حدّث في بيت الفريسي يُلخّص كل "التدبير الخلاصي". إلهنا ينتظر أن يفتح الإنسان له قلبهُ ليدخلَّ ويتكأ ويجعل منه مسكناً له. إلهنا لا يحلُّ ضيفاً فحسب، بل يستحوّذ على كل مَن في البيت، هو ربُّ البيت.
أفكارُ الفريسي ورؤيتهُ جعلتهُ يتنكّر مكانة الله، ويجلس على عرشهِ دياناً يُحدد مَن هم المُخلصّوَن ومَن هم الهالكون. هذه هي خطيئة المتدينين دوماً، وهو بذلك يتناسى أن الله هو الخالِقَ وهو الديّان، وهو الذي يقبلُ الإنسان غافراً، وعلى الإنسان أن يُظهِرَ مُحبةً تشير إلى فرحتهُ بكونه محبوباً ومقبولاً من قبلِ الله رغم كثرة خطاياه. هذه المرأة إنموذجٌ لكلِّ إنسانٍ يشعرُ بضعفه وقوةّ حضورِ الله المُحب في حياتهِ، فوقفَت بتواضعٍ أمام الله الآب المُحب، وإنحنَت لمَن إنحنّى وغسلَ أقدامنا، لمَن لا يُميتُ الآخرين في خطاياهم، بل هو إلهُ الفرص الجديدة، فنهلَت من محبّة الله ورحمتهِ قوّة حررتها من خطاياها ومن مخاوفها.
ولكن، أين تظهرُ رحمة الله في رّبنا يسوع المسيح؟
هل في غفرانهِ للمرأة؟ بالتأكيد، ولكن هذه المرأة آمنت بالغفران قبلَ أن تسمعَ كلمة "مغفورة لك خطاياك". ربّنا يسوع يعرِض رحمتهُ لسمعان الفريسي؛ إرحمَ نفسَك يا سمعان من كل ما تُفكِر به، فما تعبدهُ ليس الله الآب الذي اُبشرُ به أنا، بل إلهاً أنت اخترعتهُ لتعبدهُ وتدين الناس بإسم هذا التدين. ربّنا يسوع، ومحبّةً بسمعان الفريسي، يدعوه لأن يُحرِرَ ذاتهُ من "سطوة وطغيان" هذا الإلهِ الديّان، الذي يُلاحقُ الناس مُهدداً بالعقاب، فإذا كان الإنسان خاطئاً، فعليه أن يطردهُ ويصرفهُ من حضرتهِ. وهذا ليس الإله الذي بشّرنا به ربّنا يسوع. إلهُ ربّنا يسوع المسيح يُعطينا السلام والقوّة عندما تُضعفنا الخطيئة.
منحَ حضور ربّنا يسوع المُحِبَ للمرأة ولسمعان ما كانا يبحثان عنه: السلام: "صارحَ سمعان بما يُفكّر فيه صمتاً"، وقال للمرأة: "اذهبي بسلامٍ"، وآمنت بهذا السلام: إيمانُك خلّصك"، فشعرت بالقوة على الرغم من ضعفها ولم تُبال بما ستواجهه من نظراتٍ وإتتقاداتٍ، فما يهمّها هو أن تصلِ عند ربّنا يسوع. القوة التي اُعطيت لها لم تكن لتشتهِر وتنال إعجاب الناس، أو من أجل السيطرة على الآخرين أو لإزاحة هذا أو ذاك عن طريق حياتها، بل قوّة الروح القدس التي تجعلُ الإنسان متواضعاً، لا ينسبُ إلى نفسه ِشيئاً، بل إلى الله الذي ناصرهُ، فتغلّب على الأقوى: الشر والخطيئة: "أستطيع كل شيءٍ بذاك الذي يُقويني" (فل 4: 13)
نحن بحاجةٍ اليوم إلى هذه القوّة لا لكي ندين الناس أو نحكم عليهم، لكن لنقبلهم بالمحبة التي بها قبلنا الله. قوّة تزيلُ الخوف والقلق من قلوبنا. قوّة تهبُ السلامَ إلى قلوبنا وتعيدنا إلى الله وإلى القريب. قوّة تُثبتّنا في الإيمان على الرغم من التحديات التي يسعى العالم ليضعها امامنا. فأن تكون مسيحياً اليوم يعني أن تواصل السير بثبات ووضوحٍ عارفاً أنك تريد اللقاء بالمسيح يسوع. أن تكون مسيحياً يعني أن ترفض أساليب القوّة التي يسعى العالم للحصول عليها، وتستبدلها بالقوة التي يهبها الروح القُدس. أن تكون مسيحياً يعني أن تسعى مُحباً لتكون صانعَ سلامٍ، وباذرَ محبةٍ على مثال ربّنا يسوع الذي دعانا ًلنكون في العالم جسورَ سلامٍ فلا نرى نقائص الآخرين، بل نرى محبّة الله لهم، ونحُبهم مثلما هو يُحبهم.